شبكة قدس الإخبارية

رسائل لا تصل (5)

رحمة حجة
لأجل كل الرسائل الذاهبة مع الريح.. وتعويضًا عن كل التأويلات الموجعة لعدم تلقي أيّ رد، كانت ”رسائل لا تصل“، موئلًا أسبوعيًا للباحثين عن مسافة البوح بين خطوات من الخوف والتردد. قبل اثنين وعشرين عامًا، لم أستطع قول "أحبك"، لكنّي الآن أرسل لك اعتذاري. نعم، أعتذر لك عن كل دقيقة انتظرتني فيها ولم آت. عن كل ذكرى مزقتك وحدك بينما كانت المسافة تلوك الذاكرة، إلى جانب السنين. أعتذر لعلبة السجائر الفارغة المخبأة في صندوق الحكايا لديك، ولعلاقة المفاتيح التي نما حلمها عامًا تلو عام في أن تحمل يومًا ما مفتاح بيت يضمنا، ولوسادة اتكأتُ يومًا عليها في بيتكم القديم، وظلت رفيقة العمر رغم سنين الغياب. أعتذر من شَعرك المنساب أسفل كتفيك، حيث لم أمسسهُ يومًا ولم أتعطّر بشذاه في جلسة اعتيادية ككل المحبين أمام شاشة صغيرة، نقصص أمامها اهتماماتنا في الحياة. في ذلك اليوم، حين مررتُ على صورتك في عالم "الفيسبوك" وأنت في اكتمال الأربعين، وأنا أكثر قليلًا، رأيت ذات الابتسامة اليانعة التي تركتها خلفي في عاصمة الأمويين، ورأيتك ابنة الرابعة عشرة التي تخبئ راحتيها في طرفي قميصها الرمادي.. نعم، ما زلت أذكر لقاءنا الأول ونظرتنا الأولى وعينيك اللتين تلاحقانني كاللص، موقنةً أنني لن أدرك ذلك. من قال إن نقيض النسيان أن أراك كل يوم في البال؟ من قال إن نقيض النسيان ألا يهدأ لي رمش في حزن المسافات؟ .. نقيضه يا عزيزتي، أنني حين تُذكرين أمامي، لن أحتاج من أحد توضيح ملامح طيفك، أو وصف ترنيمة الميلاد في صوتك، أومزارع البرتقال في عينيك.. لن أحتاج شيئًا، إنما سأراك كما أنت، كأننا التقينا في أحد مقاهي رام الله أمس، واحتسينا القهوة أو النسكافيه. كم كنت "فظًا غليظ القلب" حين أوكلتُ للقدر مهمة التحكم في مصيرنا، ومصيركِ على سبيل الاختصاص! يومها مُنعت عن السفر، وضللتُ الطريقَ إليك، وأيضًا أعترف.. استسلمت. إنه مزيج من الخوف والكتمان والجُبن.. نعم، جبانٌ من لا يقول "أحبك" في وقتها، ومن يترك حبيبته للوقت يفعل فيها ما يشاء.. وهل أقسى من الوقت؟ هذا الوقتُ الذي دفعكِ لتوهم كل شخص خلف الباب "أنا"، وكل هاتف يسأل عن حالكم ملك لصوتي "أنا"، وكل هدية من الأرض المحتلة تخترق الحواجز والحدود، موقعةً باسمي "أنا"، وكل "إيميل" في الزمن الإلكتروني مني "أنا". ربما أكون أنانيًا إذا قلتُ الآن "أحبك" وأنت لست لي، ويستحيل أن نجتمع مجددًا، فعلى يمين كل منا ترتاح عائلة كاملة، بهمومها وذكرياتها.. بنجاحاتها وإخفاقاتها، ولها حقٌ علينا في أن نحافظ على حضنها الذي احتوانا سنينًا، وندين لها بالولاء. وقد أكون لا مباليًا بهذا الحب الذي يتوهج في أربعين العمر، لكني لا أستطيع الآن سوى أن أعتذر منك دون إدراك الجدوى، وأعلّم أبنائي بألا يخافوا البوح.. وألا يكابروا على الجرح.. فالحياة أبسط كثيرًا من كل التبريرات التي نسوقها للفراق، والخاسر من يصمت، والرابح من يتكلم، حتى لو لم يجد لدى الآخر قلبًا يؤويه، حيث يكفيه فيما بعد، ألا يندَم.