شبكة قدس الإخبارية

خطاب الهزيمة والخنوع: كيف يُعاد تشكيل الوعي الفلسطيني لتجريم المقاومة؟

photo_2024-12-30_14-57-15
أحمد الطناني

خاص - شبكة قدس: في خضم المواجهة المستمرة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي واستعار حرب الإبادة ومضي حكومة "الحسم" الصهيونية بخطط التصفية، برز خطاب خطير وممنهج يسعى إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي الفلسطيني، يستند إلى سردية تحميل المقاومة مسؤولية الدمار والمعاناة التي يتعرض لها الفلسطينيون، متجاهلًا بذلك الفاعل الحقيقي وراء العدوان، وهو الاحتلال نفسه.

هذا الخطاب، الذي تتبناه بعض الأطراف المحلية والدولية، يحاول تجريم المقاومة وتصويرها على أنها السبب المباشر للكوارث الإنسانية، متغافلًا عن جرائم الاحتلال الممنهجة من القصف والتهجير والاستيطان، التي تُمارس بدعم عسكري وسياسي واقتصادي من القوى العالمية.

تلعب السلطة الفلسطينية دورًا محوريًا في ترويج هذا الخطاب، سواء في الخطاب الموجه للجمهور الفلسطيني في قطاع غزة، أو السلوك الذي يتعدى الخطاب في مناطق أخرى خاصة في الضفة الغربية، والذي يأتي في سياقه حملتها الأمنية ضد المقاومة في جنين وغيرها من المناطق، المترافقة مع نبرتها التحريضية ضد قوى المقاومة، محملةً إياها مسؤولية الدمار الذي يخلفه العدوان الإسرائيلي.

هذا النهج لا يقتصر على انتقاد المقاومة، بل يمتد إلى ترسيخ حالة من التدجين والخنوع، تُجرّم أي فعل مقاوم وتُسوّق لفكرة استحالة المواجهة، تحت ذريعة الحفاظ على الأمن والاستقرار. وهو خطاب يتعدى كونه مجرد موقف سياسي مؤقت، بل يُمثل مرحلة متقدمة من "كيّ الوعي"، تهدف إلى استدخال الهزيمة كحتمية أبدية في الذهنية الفلسطينية، وتجريم المقاومة التي تُشكل جزء من مشروع تحرري طويل الأمد.

إن هذه المحاولة لإعادة صياغة الوعي الجمعي الفلسطيني تُذكّر بخطابات استعمارية مشابهة، حيث كان المستعمر يلوم الضحية على القمع الذي تتعرض له، مدعيًا أنه اضطر لاتخاذ هذه الإجراءات بسبب "عناد" الشعوب. ولعل المثال الأكثر تطرفًا هو التصريحات الصهيونية التي حملت الفلسطينيين مسؤولية قتل أطفالهم، باعتبار أن مقاومة الاحتلال هي التي دفعتهم لذلك ويُصر البعض الفلسطيني على أن ينسجم مع هذه السردية ويقدم خطاب يُعززها عبر نهج يتجاوز الحاضر، ليعيد تفسير الماضي النضالي الفلسطيني ويُشكك في جدوى المقاومة، ويعمل على إحباط أي أمل في المستقبل.

رؤية منهجية وتشويه متعمد

خطاب السلطة الفلسطينية تجاه المقاومة الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، يعكس توجهًا منهجيًا يهدف إلى تحميل المقاومة مسؤولية الدمار والمعاناة، متجاهلًا دور الاحتلال الإسرائيلي كفاعل رئيسي وراء الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، وهو خطاب ليس نتاج مواقف فردية أو عفوية، بل تعبير عن سياسة مركزية تتبناها السلطة وتُعبّر عنها بشكل واضح من خلال بيانات رسمية وتصريحات قياداتها.

تجلّت هذه السياسة بوضوح في البيان الصادر عن رئاسة السلطة الفلسطينية عقب مجزرة المواصي في يوليو 2024، حيث وصفت الرئاسة حركة حماس بأنها "شريك في تحمّل المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية عن استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة". وبررت السلطة هذا الاتهام بما وصفته بـ"تهرّب حماس من الوحدة الوطنية وتقديم الذرائع المجانية لدولة الاحتلال". ضمن خطاب رسمي صادر عن رأس الهرم يعكس تواطؤًا ضمنيًا مع الرواية الإسرائيلية التي تسعى إلى تحميل المقاومة مسؤولية الجرائم الناتجة عن العدوان.

تجاوز هذا الخطاب البيانات الرسمية، بل امتد ليشمل تصريحات متزامنة لقيادات بارزة في السلطة الفلسطينية وحركة فتح. تبنى رواية الاحتلال حول استخدام المقاومة للمدنيين كـ"دروع بشرية". واعتبار أن المقاومة تتسبب بشكل مباشر في تفاقم الأزمات الإنسانية. إضافة لاتهام المقاومة بأنها تخدم أجندات خارجية وتضع الشعب الفلسطيني في مواجهة مفتوحة مع الاحتلال دون مبرر.

في الضفة الغربية، يعكس سلوك السلطة على الأرض هذا الخطاب التحريضي بشكل عملي. خلال الحملة الأمنية التي شنتها السلطة على مدينة جنين، اتُهم المقاومون بأنهم "خارجون عن القانون" و"أذرع لإيران"، في محاولة لربطهم بأجندات خارجية تُضعف شرعيتهم الوطنية. لم تكتفِ السلطة بذلك، بل وجهت لهم اتهامات جنائية متفرقة، مثل السرقة والابتزاز، لتشويه صورة المقاومة في عيون الشارع الفلسطيني. هذه الحملة الأمنية لم تكن إلا امتدادًا لتوجه عام يهدف إلى تفكيك أي بنية مقاومة في الضفة الغربية وتعزيز سيطرة السلطة كبديل "شرعي ومسؤول".

إن هذا الخطاب التحريضي الممنهج يسعى إلى تحقيق أهداف استراتيجية واضحة: أولًا، تقويض شرعية المقاومة عبر تصويرها كعبء على المجتمع الفلسطيني وليس كأداة نضالية مشروعة. ثانيًا، تعزيز شرعية السلطة الفلسطينية باعتبارها البديل "المسؤول" عن تحقيق حياة "آمنة" للسكان، حتى وإن كان ذلك على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. ثالثًا، إضعاف الدعم الشعبي للمقاومة من خلال ربطها بالكوارث والمعاناة، وخلق وعي جديد يرى في المقاومة مشروعًا فوضويًا يُدمر ما تبقى من فرص الحياة الكريمة.

إن خطاب السلطة الفلسطينية في هذا السياق لا يقتصر على كونه محاولة لتبرير سياساتها، بل يمثل هجومًا على جوهر المشروع الوطني الفلسطيني. عبر تحميل المقاومة مسؤولية ما يحدث، بينما يتم تجاهل الاحتلال كعامل أساسي في الصراع، وتحويل الفلسطينيين أنفسهم إلى متهمين بتدمير قضيتهم. وهو نهج لا يُسهم فقط في تمزيق النسيج الوطني، بل يضعف قدرة الفلسطينيين على مواجهة الاحتلال بوحدة موقف وإرادة، ويعمق حالة الانقسام وغياب المشروع الجامع، في الوقت الذي تسعى إسرائيل إلى استغلال هذا الوضع لصالح مشروعها الاستيطاني.

إنكار شرعية المقاومة وتشويه مشروعها الوطني

خطاب السلطة الفلسطينية تجاه المقاومة الفلسطينية يُظهر توجهًا منهجيًا يهدف إلى تقويض شرعية المقاومة وتشويه صورتها، متجاهلًا التأييد الشعبي الواسع الذي تحظى به، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة. تجلى هذا الخطاب بوضوح منذ بداية "طوفان الأقصى" في بيان رسمي أصدرته القيادة الفلسطينية عبر وكالة الأنباء الرسمية "وفا"، حيث ادعى أن الفصائل الفلسطينية "لا تمثل الشعب الفلسطيني"، متناسيًا أن هذه الفصائل، بحسب استطلاعات الرأي وكذلك نتائج الانتخابات النقابية والطلابية والمحلية، تحظى بتأييد شعبي واسع، وأن المقاومة تُعد عنوانًا لإجماع شعبي فلسطيني في مواجهة الاحتلال، يعكس هذا الإنكار للواقع الشعبي محاولة واضحة لاحتكار تمثيل الفلسطينيين تحت مظلة القيادة المهيمنة على منظمة التحرير الفلسطينية، مع تجاهل متعمد للمتغيرات التي طرأت على الساحة الوطنية منذ عقود.

لم يقتصر الخطاب على إنكار التمثيل الشعبي للمقاومة، بل سعى إلى ربطها بالكوارث والمعاناة التي يواجهها الفلسطينيون، ففي أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، أصدرت حركة فتح بيانًا وصفت فيه العملية بأنها "نكبة" جديدة حلت على الفلسطينيين، محملة المقاومة المسؤولية عن الدمار الذي تسبب به الاحتلال، متجاهلًا بشكل متعمد السياق الحقيقي للعدوان الإسرائيلي، حيث قدم جرائم الاحتلال كمجرد رد فعل على أفعال المقاومة، متغافلًا عن كونه القوة العسكرية القامعة التي تمارس العدوان كجزء من مشروع استيطاني استعماري مستمر.

في هذا السياق، جاء بيان صادر عن حركة فتح ردًا على انتقادات قوى المقاومة لتشكيل حكومة جديدة في رام الله، الذي حمل هجومًا على المقاومة، وخصوصًا حركة حماس، محملًا إياها مسؤولية ما وصفته بـ"إعادة احتلال قطاع غزة" و"المغامرات غير المحسوبة"، معتبرة أن قيادة حماس مفصولة عن الشعب الفلسطيني ولا تشعر بحجم الكارثة التي يعيشها. البيان ذهب إلى حد اتهام حماس بأنها تتفاوض مع الاحتلال لتأمين مصالحها الخاصة، محاولة بذلك تقويض شرعيتها الوطنية وربطها بـ"أجندات خارجية".

هذا الخطاب لم يبقَ حبيس البيانات السياسية، بل تجسد عمليًا في الحملة الأمنية التي شنتها السلطة الفلسطينية على جنين. خلال هذه الحملة، وُصفت المقاومة بأنها خارجة عن القانون، واتُهم المقاومون بأنهم يعملون لصالح "أجندات إيرانية"، إلى جانب اتهامات جنائية متعددة، في محاولة لتشويه صورة المقاومة أمام الجمهور الفلسطيني وتبرير الحملة الأمنية باسم "حماية الوطن" في محاولة لطرح مقاربة ما بين "حماية الوطن" ومواجهة "المغامرات غير المحسوبة" ضمن سياق يُظهر كيف تسعى السلطة إلى توظيف خطابها لتبرير قمع المقاومة وإعادة إنتاج رؤية أمنية تحصر المقاومة ضمن إطار "الفوضى".

وفي هذا الإطار أيضًا لجأت السلطة إلى إعادة استغلال أحداث الانقسام الداخلي عام 2007، في محاولة لإحياء السردية التي تربط المقاومة بالفوضى وفقدان السيطرة الأمنية وإحياء فزاعة الاقتتال الداخلي لتسويق حملتها الأمنية.

تسعى السلطة إلى تقويض شرعية المقاومة وتعزيز شرعية وجودها كخيار أوحد في المشهد السياسي الفلسطيني. في الوقت ذاته، يهدف هذا الخطاب إلى زرع قناعة بضرورة الخضوع والقبول بالواقع القائم، تحت ذريعة الحفاظ على الأمن والاستقرار.

تشويه الذاكرة الوطنية وزرع حتمية الهزيمة

خطاب السلطة الفلسطينية الذي يحمّل المقاومة مسؤولية المعاناة والكوارث يُشكّل خطرًا كبيرًا على الوعي الجمعي الفلسطيني، إذ يسعى إلى زرع قناعة بحتمية الهزيمة والخنوع، وتشويه الذاكرة الوطنية النضالية للشعب الفلسطيني، وهو خطاب لا يكتفي بتبرير الواقع القائم، بل يمضي نحو إعادة تشكيل الرواية الوطنية بطريقة تقوّض مشروع التحرر الفلسطيني وتُكرّس حالة من الانقسام واليأس.

يعمل خطاب السلطة على تصوير المقاومة كعبء يُثقل كاهل الشعب الفلسطيني، بدلًا من كونها حقًا مشروعًا في مواجهة الاحتلال، ضمن سردية تهدف إلى تشكيل قناعة في الأجيال الجديدة عبر تمرير روايات تُبرز الخنوع كخيار وحيد للبقاء، وترسّخ فكرة أن المقاومة لا تجلب سوى الدمار.

يتناسى هذا الخطاب كل ما حققته المقاومة من إنجازات ملموسة في مواجهة الاحتلال، خصوصًا دفع الاحتلال إلى تفكيك المستوطنات في قطاع غزة ورحيله عن القطاع عام 2005، فضلًا عن تفكيك مستوطنات شمال الضفة الغربية في ذات العام، وهي ذات المناطق التي تُشكّل اليوم محورًا لحملات القمع الإسرائيلية والفلسطينية المشتركة ضد مجموعات المقاومة، وقطاع غزة الذي يواجه حرب الإبادة الأكبر في تاريخ الشعب الفلسطيني.

إن تصوير المقاومة كسبب للمعاناة يتجاهل حقيقة أن الاحتلال يمضي في مشروع الضم وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية دون أن تُقابله مقاومة تُعيق تقدمه. تُبرز المفارقة في هذه الحقيقة بشكل صارخ في مناطق مثل جنين وطولكرم وطوباس، حيث لعبت مجموعات المقاومة دورًا رئيسيًا في عرقلة مخططات الضم، بينما تعمل السلطة اليوم بالتنسيق مع الاحتلال على تفكيك هذه البؤر المقاومة، مما يُحيد عوامل المواجهة ويُسهّل تنفيذ المشروع الصهيوني.

يمثل خطاب السلطة محاولة لتهميش التاريخ النضالي الفلسطيني لصالح رواية مهادنة تسعى إلى تبرير السياسات الحالية؛ متجاهلًا أن المقاومة الشعبية والانتفاضات الفلسطينية، كانت العامل الأساسي الذي حافظ على الوجود الفلسطيني وواجه محاولات قمع المشروع الوطني الفلسطيني وتحييده ثقافيًا وسياسيًا، خاصة بعد خروج منظمة التحرير من لبنان عام 1982.

هذا التشويه يمتد إلى جوهر منظمة التحرير الفلسطينية نفسها؛ إذ تتناسى قيادة السلطة أن الاعتراف الدولي بالمنظمة جاء نتيجة لتراكمية الفعل النضالي الفلسطيني الذي أجبر العالم على سماع صوت اللاجئين الفلسطينيين، وليس نتيجة لتفرد سياسي وهيمنة فصيل بعينه. اليوم، يُستخدم هذا الاعتراف الذي أُستحق وطنيًا كأداة لتهميش القوى الفاعلة على الأرض، في محاولة لتقديم السلطة كالممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، متجاهلين حقيقة أن وحدانية التمثيل المرتبطة بمنظمة التحرير هي بالأساس تعبيرًا عن مشروعًا نضاليًا جماعيًا يُفترض أن يحمل فكرة التحرر الوطني كمُحدد رئيسي للسياسات، وليس الحفاظ على مشروع السلطة.

إن خطاب السلطة يحاول إعادة إنتاج الرواية الوطنية بشكل يخدم أهداف استدخال الهزيمة عبر اقتطاع السياقات النضالية من تاريخ الشعب الفلسطيني، وتسليط الضوء فقط على الكوارث المرافقة أساسًا للسلوك الاستعماري الصهيوني أيًا كانت أشكال المواجهة وأدواتها، دون الإشارة إلى الإنجازات التي انتزعها الفلسطينيون عبر مقاومتهم المستمرة. هذا التشويه يحاول تحويل الهوية الوطنية الفلسطينية من هوية نضالية جامعة إلى هوية خاضعة تقبل بالواقع القائم، مما يُهدد مستقبل المشروع التحرري الفلسطيني.

يتغاضى الخطاب الرسمي عن حقيقة أن المقاومة كانت دائمًا العامل الأساسي الذي حافظ على الهوية الوطنية وحمى الشعب الفلسطيني من محاولات التصفية، سواء بأشكال التنظيم الفلسطيني بعد النكبة أو انطلاق القوى الفلسطينية المعاصرة على أثر النكسة أو انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة بعد خروج منظمة التحرير من لبنان أو انتفاضة الأقصى رفضًا لسياسات الاستيطان والتهويد وليس انتهاء بصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته في وجه مخططات التصفية و"حسم الصراع".

إن الحفاظ على الهوية الوطنية لم يكن نتيجة للمهادنة أو الخنوع، بل بفضل رفع الفلسطينيين راية المقاومة وإصرارهم على التمسك بحقوقهم الوطنية، وهو ما تحاول السلطة اليوم تحريفه لصالح رؤية سياسية تُكرّس حالة الهزيمة.

امتداد لمنهجيات الاستعمار في تشويه المقاومة وتحميل الضحية المسؤولية

خطاب السلطة الفلسطينية الذي يحمّل المقاومة مسؤولية الدمار والمعاناة لا يمكن فهمه بمعزل عن سياقات استعمارية مشابهة، حيث تم استخدام استراتيجيات مماثلة من قبل قوى استعمارية لتبرير جرائمها وإضعاف إرادة الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ضمن خطاب يرتكز إلى تحويل الجلاد إلى ضحية، وتحميل الشعوب المستعمَرة مسؤولية القمع الذي يُمارس ضدها، وهو نهج اعتمد عليه المستعمرون عبر التاريخ لإخضاع الشعوب واستدخال الهزيمة في وعيها الجمعي.

أحد أبرز أوجه التشابه بين خطاب السلطة الفلسطينية وخطابات الاستعمار هو تحميل الضحية مسؤولية الجرائم المرتكبة ضدها، وهو ما عبرت عنه تصريحات بعض القادة الصهاينة، مثل مقولة رئيسة وزراء الاحتلال السابقة جولدا مائير "لن نسامحكم لأنكم أجبرتمونا على قتل أطفالكم"، والتي تُعد مثالًا صارخًا على هذا الخطاب الذي يُبرر القتل والقمع بحجة أن الشعب الفلسطيني يضع الاحتلال في موقف "اضطراري"، هذا النهج يتكرر اليوم في خطاب السلطة، الذي يحمل المقاومة مسؤولية العدوان الإسرائيلي بحجة أنها "تجر الشعب الفلسطيني إلى الويلات".

قراءة كتابات فرانز فانون تُوفر عدسة تحليلية لفهم هذا النمط من الخطاب، في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، يُبرز فانون كيف يتم استدخال الهزيمة من خلال تبني المستعمرات لرؤية المستعمر عن نفسها.

لطالما اعتمدت القوى الاستعمارية في سياقات مختلفة على العملاء المحليين لتعزيز هذا النوع من الخطاب. في الجزائر، على سبيل المثال، سعى الاحتلال الفرنسي إلى تشويه صورة المقاومة من خلال اتهامها بالتسبب في معاناة الشعب الجزائري. وقد وثق فانون كيف حاول المستعمر إقناع الجزائريين بأن المقاومة المسلحة تؤدي فقط إلى إطالة أمد الاحتلال وزيادة معاناتهم.

في جنوب أفريقيا، واجهت حركة مناهضة الأبارتهايد خطابًا مماثلًا من النظام العنصري، الذي صور العقوبات الدولية والمقاومة الشعبية كأسباب لتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، محاولًا بذلك نزع الشرعية عن الحركة ووضعها في مواجهة مع الشعب نفسه.

إن خطاب تحميل المقاومة مسؤولية الجرائم الإسرائيلية ليس جديدًا، بل هو جزء من إرث استعماري طويل يعتمد على استغلال أدوات القمع والتشويه لتقويض إرادة الشعوب، وما يجعل هذا الخطاب أكثر خطورة في الحالة الفلسطينية هو تبنيه من قبل أطراف داخلية، تعمل على تعزيز رواية الاحتلال وتطبيع الهزيمة في الوعي الجمعي الفلسطيني. إسقاط الأمثلة من الجزائر وجنوب أفريقيا يُظهر أن هذا الخطاب لم يكن أبدًا علامة على قوة المستعمر، بل على إدراكه لتهديد المقاومة لقدراته الاستعمارية؛ وبالتالي، فإن استمرار المقاومة هو الرد الطبيعي والتاريخي الذي أثبت نجاعته في مواجهة هذا النوع من الخطابات.

بين خطاب السلطة والمقاومة الحقيقية

يشكل خطاب السلطة الفلسطينية، الذي يُجرّم المقاومة ويُحمّلها مسؤولية الكوارث والمعاناة، خطرًا مزدوجًا على الوعي الجمعي الفلسطيني، وعلى المشروع الوطني برمته. إن هذا الخطاب، الذي يُعيد إنتاج سرديات استعمارية تهدف إلى استدخال الهزيمة وإضعاف روح النضال، لا يمثل فقط انحرافًا عن مسار التحرر، بل يُعطي الاحتلال غطاءً سياسيًا وأخلاقيًا لاستمرار عدوانه.

في خضم هذا المشهد، يبقى التمسك بخيار المقاومة، سواء في جنين أو غزة أو أي بقعة فلسطينية، هو الضمانة الحقيقية لاستمرار النضال الفلسطيني، إن المرحلة المقبلة تتطلب مواجهة ليس فقط للاحتلال، بل أيضًا لكل خطاب يُحاول تفكيك إرادة الشعب الفلسطيني وشرذمته. هذا الشعب الذي انتزع حقوقه في مواجهة أقسى الظروف قادر على تجاوز كل محاولات التدجين، ليؤكد مجددًا أن المقاومة ليست خيارًا عابرًا، بل هي التعبير الأسمى عن تمسك الفلسطيني بحقه وكرامته ومستقبله.