شبكة قدس الإخبارية

أمه تروي لـ "قدس" حكاية جمعت "ثلاثية النضال"

يزيد جعايصة .. مقاومٌ خارجٌ عن "قانون السلطة" أضاف قطرة لـ "الطوفان"

2024-12-21 13.11.00
يحيى موسى

جنين - خاص قدس الإخبارية: "أطلقوا الرصاص على صدر نجلي يزيد لحظة اقتحامهم لحارتنا بمخيم جنين، الذي لم ينتبه لوجودهم ولم يكن ينوي إطلاق النار عليهم وكانت رسالته للمقاومين بعدم إطلاق النار بهدف القتل على تلك العناصر رغم كل ما فعلوه" على مدار سبعة أعوام نجى خلالها المطارد يزيد جعايصة (30 عاما)  من رصاص الاحتلال عاش مطاردا أسيرا جريحا، لكنه لم ينجُ من رصاص السلطة التي اقتحمت مخيم جنين واغتالته قرب منزله على مرأى ومسمع من أمه المكلومة بجرحها الغائر.

في لقاء أخير قبل الاستشهاد بساعات جمع الأم بنجلها، أوصته بأن "لا يرفع سلاحه على السلطة" مذكرة إياه "هؤلاء منا وفينا" رغم أن نجلها كان يدرك أن رأس المقاومة هو الهدف ولم يخف ذلك عن أمه وهو يشتم رائحة الشهادة تقترب، "هم أصلا جايين يقتلونا".

من مطاردة الاحتلال ووضعه على رأس المطلوبين في مخيم جنين، إلى ملاحقة السلطة له حتى قتلته برصاصها، تسابق الطرفان وتناوبا على محاولة الوصول للشاب الثائر، الذي رفض "الذل والهوان" كما كان يقول وأصبح خارجًا عن ذلك "القانون" في نظر السلطة، كرس حياته لمقاومة ومقارعة الاحتلال، حتى عندما استشهد نأى بنفسه أن يوجه رصاصاته لمن "هم بنوا جلدته" فتلقف رصاصاتهم بصدره، واستشهد مدافعا عن المخيم، وترك البندقية للمقاومين من خلفه.

رفض الذل

لم يخش جعايصة هذه النهاية التي تحدث عنها كثيرًا وجهر بصوت مرتفع أنه يريدها ولا يهرب منها، رفضًا لحياة الذل والهوان، والتي عبر عنها في أبيات صدح بها وحملت جانبًا من شخصيته: "آلا بعدًا لمشوارٍ كله ذل، إن لم تكن هذه الحياة عزيزةٌ، فماذا إلى طول الحياة تتوق؟".

ختم الفتى الذي تربي في حضن جدران المخيم واستشهد فيه برصاص أمن السلطة التي اقتحمت المخيم، أبياته تلك التي كانت كوصية ونهج سار عليه "آلا أن خوف الموت مر كطعمه، وأن الفتى عليه سيف دلوكُ، وأنك لو تستشعر العيش في الردى لتحليت طعم الموت حين تذوقُ".

قبل حوالي خمس سنوات أصيب جعايصة في بطنه أثناء اجتياح قوات الاحتلال لمخيم جنين، لكنه لم يترك طريقا رسم فيه "نهاية مشرفة" واعتقله الاحتلال لنحو عامين، تميز بشجاعته وجرأته في قول الحق.

بصوتها المكلوم ونبراتها الغاضبة، تقول أمه لـ "شبكة قدس": "ماذا أقول لسلطة لا فلسطينية ولا وطنية، دخلت المخيم لتقتل مقاومين تصفهم بأنهم خارجون عن القانون، رغم أنهم يحملون أرواحهم على أكفهم في سبيل الله والدفاع عن شرف الأمة والوطن".

وأضافت "نجلي يزيد ومنذ سبعة أعوام وهو يقاوم الاحتلال ويدافع عن نفسه من السلطة التي لم تتوقف عن ملاحقته، لأنهم لا يريدونه أن يتحدث بكلمة حق، يريدون البقاء مذولين لـ (إسرائيل) وجيشه لا يريدون من أحد رفع صوته وأن تظهر كلمة الحق، أحتسبه عند الله شهيدًا وحسبي الله فيهم".

على مدار أعوام المطاردة عاش التشرد بعيدا عن منزله، تتابع: "لم يكن ينام في البيت وكنت أتمنى أن ينام على سرير مثل أخوته بأمان، لأنه دائما كان يتنقل بين زقاق المخيم، ومن بيت إلى آخر، لا يوجد استقرار في حياته، لم يخرج من المخيم وعندما كان يأتي للبيت كان لا يطيل المكوث فيه".

تلك الدقائق المعدودة مثلت لها حياة، وفي كل لقاء سريع نظرا لوقوع بيتها على أطراف حارة "مهيوب" في مخيم جنين، تشعر أنه الوداع الأخير، "كنت أجلس معه وأطمئن عليه، أتمعن في ملامحه، وأخشى أن لا أراه مرة أخرى".

ما كانت تخشاه واجهته عندما سمعت بخبر إصابته لحظة اقتحام السلطة للمخيم، وكان عناصرها يطلقون الرصاص كـ "زخات المطر" كما تصفها جعايصة الأم، التي ركضت بين تلك الرصاصات وسارت بشوارع فارغة من المارة ووصلت المشفى.

 تقفز أمامها لحظة الفاجعة، قائلة: "ذهبت للتحدث إليه على أنه "مصاب كما قالوا لي"، سألت عنه في قسم الطوارئ، فأخبرني الممرضون أن نجلي في نهاية الممر، فسرت حتى وجدته مسجيا بدمائه مقيدًا شهيدًا، كانت لحظات صادمة".

الحرقة التي بكت فيها لحظة استشهاده، تلسع صوتها الآن: "لو استشهد على يد الاحتلال أهون علي بكثير أن يستشهد على يد السلطة، فهذا وقعه أشد بمائة مرة على قلبي، توقعت استشهاده منذ سنوات على يد الاحتلال وليس برصاص السلطة".

في آخر رسالة له قال جعايصة "الحمد لله الذي جعلنا جندا من جنود الحق، وشوكة في حلق أعدائنا، ونحمد الله أنه استخدمنا ولم يستبدلنا، وأننا تعلمنا وتشرفنا في مدرسة جنين أن ساعة عز أحب إلينا من الدنيا وما فيها، وأن نقبض على جمرة الجهاد".

وأضاف الشاب في كلمة مصورة "وأسفاه على السلطة التي استنفرت كل هذا الاستنفار وهذه القوى، ولم تستنفر يوما على كل هذه الدماء بارتقاء خمسين ألف شهيد في غزة وآلاف الشهداء في لبنان، ولم يهتز قلبهم على كل هذه الأوصال المقطعة وعلى صرخات الأطفال واليتامى، فقط اهتز قلبهم على سيارات لا تساوي شيئا".

ودعا في رسالته الأخيرة السلطة للاستيقاظ من الغفلة والمهزلة، ووقف الدماء التي ستسيل، وقال: "ارجعوا لنا حقوق الشهداء وأفرجوا عن الأسرى"، مؤكدًا، أن "طوفان الأقصى لم ينته، وأن على كل من بقي في قلبه ذرة من الغيرة أن يضيف قطرة على الطوفان".

طفولة ثائر

منذ صغره ترعرع يزيد في حضن مخيم الثوار، فخرج ثائرًا على ظلم الاحتلال وجبروته، يرجم المركبات الإسرائيلية في الحجارة، حتى أصيب في قدمه وبطنه برصاص جيش الاحتلال أثناء رجم الحجارة.

عن تلك الطفولة، يمتلئ قلب أمه بالفخر، تستذكر "عاش طفولته بالمخيم وتحلى بصفات القيادة، كان شجاعا مجتهدا خلوقا، حلمه أن يحمل السلاح في وجه الاحتلال، ومنذ صغره لم يعرف الخوف ولا يهاب أحدا، تأثر بالحالة الوطنية لذلك لم يستطع إكمال حياته وعمله كإنسان عادي، فقضى سبع سنوات من حياته جريحا وأسيرا ومطاردا".

عمل يزيد في التمديدات الكهربائية وكان موفقا في عمله، لكن هذا لم يشغله عما يدور حوله من أحداث واعتداءات من قبل جيش الاحتلال، كانت طباعه، وفق أمه، في البيت قليل الكلام هادئا متوازنا في كل أمور حياته، تردف: "كان حنونا علي وعلى أخوته وأبناء أخوه، عندما يشعر بتعبي يترك كل شيء ويأتي ليجلس عند رأسي يشعرني بوجوده قربي، تحمل المسؤولية منذ صغره وكان قياديا مسؤولا".

تتوقف عند إصابته، عائدة بالذاكرة لسبع سنوات ماضية، عندما"أصيب برصاصتين من جيش الاحتلال واحدة بالقدم وأخرى بالبطن، وأجرى عملية جراحية في بطنه وأمضى أربعة أشهر يحاول التعافي من أثر الإصابة، حاول إخفاء وجعه ومعاناته عنها يحاول دائما إشعارها بأنه بأفضل أحواله".

حتى وهو معتقل في سجن مجدو لعامين ونصف على فترتين، وعندما كانت تزوره أمه كان يخفي ما يتعرض له خلف قضبان الاحتلال، يطل صوته على حديثه "كان يشعرني أنه بخير وبأفضل حالا رغم مرارة حياة السجون حتى لا أقلق عليه، وزادت شجاعته وإصراره على مقاومة الاحتلال بعد تجربة السجن".

نذر جعايصة نفسه كأحد جنود المقاومة في فلسطين، وخرج من رحم مخيم الثوار، من عائلة مقاومة ومن حارة لا تهدأ فيها أصوات الاشتباكات واقتحامات جيش الاحتلال تقع في خط الدفاع الأول عن المخيم تخرج نخبة شهداء المخيم، منهم أبناء خاله رعد الخازم منفذ عملية إطلاق النار وسط (تل أبيب) في 7 إبريل/ نيسان 2022، وشقيقه الشهيد عبد الرحمن الخازم.

عن روابط جمعتها القرابة والبندقية، تقول أمه: "هم أبناء خال، وجيران في نفس الوقت، تربوا مع بعض، وربما كان يزيد قريبا أكثر من عبد الرحمن لأن "رعد" كان يحب العزلة أكثر، والجميع تفاجأ بما فعله".

يجرح الفقد قلب أمه "فراقه صعب، ومؤلم فهو فراق فلذة كبدي وقطعة من رحي لكن ما يعزيني أنه عاش بطلا شريفا واستشهد بطلا وترك سيرة طيبة يشهد له كل من عرفه بأخلاقه العالية وإنسانيته وشجاعته، أفتخر أنني أنجبت مثل يزيد وأحتسبه عند الله شهيدا وحسبنا الله ونعم الوكيل وعند الله تجتمع الخصوم".