إذا قُدر لدولة الاحتلال الدخول إلى موسوعة جينيس للأرقام القياسية، فيمكن أن تدخلها من باب "أكثر دولة تصدر قوانين في العالم". ما إن ننتهي من فهم قانون المواطنة، إلى قانون المقاطعة، حتى يأتينا قانون برافر، وحتى يخرج علينا قانون "قاعدة البيانات البيومترية".
هذا الأخير، لم نسمع عنه كثيراً في وسائل الإعلام الفلسطينية، ولكنه لا يقل خطورة عن القوانين الإسرائيلية الأخرى الواضحة في عنصريتها والتي تستهدف الفلسطينيين بشكل مباشر، فهو وإن كان يبدو في ظاهره قانون إسرائيلي "عادي" لا يستهدفنا كفلسطينيين بشكل خاص، إلا أنه لا يمكن إنكار حقيقة أن الفلسطينيين هم الأكثر تضرراً منه كونه يضع معلوماتهم في يد السلطات الإسرائيلية، وبالتالي يُسهل ملاحقتهم وجمع المعلومات الدقيقة عنهم من قبل أجهزة الإحتلال المختلفة، وبالأخص الشرطة والمخابرات، ووزارة الداخلية.
خلفية عن القانون
في السابع والعشرين من تشرين الأول عام 2008، قدمت حكومة الاحتلال الإسرائيلية إلى الكنيست اقتراحاً لقانون باسم "إدراج وسائل بيومترية للتعرف على الهويات في وثائق الهوية وقواعد البيانات".تمت المصادقة على القانون بالقراءة الأولى، ومن ثم تم تحويلها إلى لجنة التشريع في الكنيست، ولكنها لم تناقشها بسبب انتهاء فترة الكنيست السابعة عشرة.
في الكنيست الثامنة عشرة، قام عضو الكنيست الإسرائيلي مائير شطريت بتقديم المقترح القانوني مرة أخرى، وفي كانون الأول 2009 تمت المصادقة على القانون، وبعد مداولات طويلة حول تفاصيل القانون تمت المصادقة على التعليمات المرافقة له في منتصف عام 2011 تقريبا.
يقول القانون أن له أهداف ثلاثة رئيسية: تحديد الطرق التي من شأنها التعرف على الأشخاص والتأكد من هوياتهم بالوسائل البيومترية، إنشاء قاعدة بيانات بيومترية، الحفاظ على الخصوصية وحماية المعلومات البيومترية.
ويحدد القانون فترة تجريب "pilot" لمدة سنتين، تكون فيها المشاركة في تقديم معلومات شخصية بيومترية مشاركة اختيارية، وبعدها يتم قياس نجاح أو فشل القانون. ويمكن تمديد فترة الاختبار هذه لسنتين إضافيتين.
[caption id="attachment_20917" align="aligncenter" width="263"] الإعلان الذي نشر لتشجيع الإسرائيليين على التسجيل للبطاقة الذكية. تقول الكتابة بالعبرية: بطاقة هوية ذكية.. طبعا جديرة بالحسبان![/caption]وبطبيعة الحال، فإن القانون غير واضح، ولا يحدد ما هي المقاييس التي سيتم وفقها قياس هذا الفشل أو النجاح، مما يلقي بشكوك حول مصداقية تقييمه في المستقبل، خاصة أن هذا التقييم سيكون فقط بيد أربع جهات: وزراء الداخلية، والمالية، والعدل الإسرائيليين، إضافة إلى لجنة من لجان الكنيست.
هذا وستشهد الأيام القليلة القادمة (ربما الأسبوع القادم) بداية تطبيق هذا القانون لفترة تجريبية، بعد أن تعطل ذلك عدة مرات بسبب التماس في المحكمة العليا الإسرائيلية قُدّم ضده ورفض في النهاية، وبسبب خلافات تتعلق بالصلاحيات بين وزارة المالية وبين مؤسسة سجل السكان الإسرائيليتيين.
ما هي "قاعدة البيانات البيومترية"؟
قاعدة البيانات البيومترية هي قاعدة بيانات محوسبة، يتم فيها تجميع بيانات شخصية تشمل بصمات الأصابع، وملامح الوجوه لكل شخص يحمل الهوية الإسرائيلية، ويشمل ذلك الفلسطينيين في القدس المحتلة، والفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948. وسيرافق بناء هذه القاعدة مشروع لتبديل بطاقات الهويات العادية بهويات جديدة وذكية.
وينظر إلى قاعدة البيانات هذه كمصدر حساس وخطير للمعلومات، لا يوجد مثله في أي دولة أخرى في العالم تُعرف عن نفسها بأنها دولة "ديموقراطية" كما تدعي دولة الاحتلال عن نفسها. يقول بعض الخبراء في دولة الإحتلال والمعارضون لهذه القاعدة أن إنشاء هذه القاعدة ليس شرطاً ضرورياً يؤدي إلى إصدار البطاقات الذكيّة، فيمكن بطبيعة الحال إصدار هذه البطاقات دون الحاجة إلى وضع كل المعلومات البيومترية للأشخاص في قاعدة بيانات ضخمة كهذه.
إحدى الجمعيات الحقوقية الإسرائيلية، جمعية حقوق المواطن، والتي قدمت التماساً في المحكمة العليا الإسرائيلية ضدّ القانون قالت في بيان سابق لها أوائل العام الجاري أن هناك أربعة أسباب أساسية تجعل منه قانوناً سيئاً. السبب الأول كما يقول البيان أنه قانون "غير ديموقراطي" مضيفة أن جمع معلومات شخصية عن كل مواطني دولة ما هي سمة للأنظمة الديكتاتورية التي تريد ملاحقة مواطنيها أكثر من اللازم بهدف إحكام السيطرة عليهم.
ويضيف بيان الجمعية إن هذا القانون يضرّ بالحق في الكرامة والحق في الخصوصية، إذ أنه يجمع بصمات الأصابع، وملامح الوجوه، ويعطي شعوراً بأن النظام يتعامل مع كل شخص فيه كمشبته حتى تثبت براءته.
أما السبب الثالث فتنظر الجمعية بعين القلق إلى إمكانية تسرب المعلومات التي ستجمع في قاعدة البيانات البيومترية فتقول "لا يوجد نظام محوسب في العالم لا يمكن اختراقه!، وكلما كانت قاعدة بيانات ما حساسة أكثر فإن ذلك يعني أنه ستلفت انتباه أولئك المعنيين باختراقها أكثر". وذكرت الجمعية بأن سجل السكان في وزارة الداخلية الإسرائيلية سبق وتم تسريبه على الإنترنت ولشركات تجارية.
أما السبب الرابع الذي من أجله تعارض الجمعية القانون فهو إمكانية "الاستخدام المسيء للمعلومات"، قائلة أن هذه المعلومات المجموعة قد تستخدم من قبل جهات حكومية لصالح استخدامات غير قانونية، قد تضر بحرية الإنسان وتقيده، وهو السبب الذي ربما يقلق الكثير من الفلسطينيين بالأخص الناشطين سياسياً.
ودعت الجمعية في نهاية بيانها الإسرائيليين إلى رفض الانضمام إلى قاعدة البيانات، وعدم تقديم معلومات شخصية تخصهم، قائلة إن هذه المقاطعة لعامي التجربة اللذين أقرهما القانون ستفشله. في ذات الوقت، يبدو أن الجمعية لا تعارض إصدار بطاقات هوية ذكية تحمل بصمات الأصابع، وإنما هي فقط تعارض جمع كل هذه المعلومات في قاعدة بيانات محوسبة يسهل بعد ذلك اختراقها ونشر ما فيها من بيانات.
كيف سيضر ذلك الفلسطينيين؟
بينما يعبر الإسرائيليون المعارضون لهذا القانون عن قلقهم من إمكانية تسرب قاعدة البيانات البيومترية واختراقها، وخاصة ممن يطلقون عليهم "جهات إرهابية"، وبينما يعترض هؤلاء الإسرائيليين بالذات على قاعدة البيانات نفسها دون الاعتراض المشدد على بطاقات الهوية الذكية، فإن للفلسطينيين الذين يحملون الهوية الإسرائيلية، وبالأخص المقدسيين المحاصرين في وجودهم، قلق من نوع آخر.
يرى المقدسيون بالذات، بما أنهم يواجهون سياسات إسرائيلية إجرامية تركز على العامل الديموغرافي في مدينة القدس، وتسعى إلى تقليل عدد الفلسطينيين فيها قدر استطاعتها، بأن هذا القانون قد يؤدي في النهاية إلى سحب بطاقات هوياتهم الإسرائيلية وبالتالي طردهم إلى خارج مدينة القدس*.
فعندما تنتهي فترة التجريب لسنتين، ويعمل القانون الإسرائيلي على إلزام الجميع بتغيير بطاقاتهم العادية إلى بطاقات جديدة وذكية، يخشى المقدسيون أن يطلب منهم، لقاء الحصول على البطاقة الجديدة، كما هو متبع عادة من قبل وزارة داخلية الإحتلال، مستندات ووثائق كثيرة تُثبت لها تواجدهم داخل الحدود البلدية للمدينة. وهذا يعني أن على المقدسي توفير كلّ ما يُثيِتُ اتخاذَه للقدس كمركزٍ للحياة، بما في ذلك أوراق تشير إلى مكان سكنه مثل وصل أجار بيته، أو فواتير الكهرباء والماء، وأوراق تثبت مكان عمله، وعناوين مدارس أبنائه، وغيرها.
يُذكر أن الآلاف من الفلسطينيين في القدس اليوم يحملون بطاقات هوية أصدرت قبل عشرات الأعوام، ويحاولون قدر الإمكان تجنب التوجه لوزارة الداخلية الإسرائيلية لعلمهم بأنها قد تطالبهم بالمزيد من الأوراق التي تثبت تواجدهم اليومي والأساسي في القدس، وهي أوراق في الغالب لا يستطيعون توفيرها، خاصة أولئك الذي يعيشون في أحياء عزلها الجدار الأمني مثل الرام والعيزرية، الأمر الذي قد يعرضهم لخطر سحب الهوية، وإخراجهم كليةً من المدينة المقدسة.
وهكذا يرى المقدسيون هذه البطاقة الذكية وسيلة خبيثة لتعريضهم لخطر سحب الهوية والتهجير القسري من القدس. وقد اعتبر ناشطون حقوقيون إعلان "إسرائيل" عن الشروع في تجريب البطاقات الذكية "محاولة للإيقاع بالمقدسيين، وحرمان عشرات الآلاف من حقهم في الإقامة في المدينة". هذا ناهيك عن الملاحقة الأمنية التي قد تطال الناشطين السياسيين بوضع كل معلوماتهم بين أيدي أجهزة الاحتلال المختلفة لتُحكِم مراقبة تحركاتهم.
في الختام، يُذكر أن أعضاء من الكنيست الإسرائيلي ينتمون لحزب العمل قدموا مطلع الشهر الجاري اقتراحاً لإلغاء قانون "قاعدة البيانات البيومترية" مببرين ذلك بالخطر القائم والذي لا يمكن التغلب عليه بتسرب المعلومات التي تحويها القاعدة. وكانت صحيفة "هآرتس" نشرت في الأول من تموز الجاري خبراً عن وثائق إسرائيلية داخلية تابعة لوزارة العدل الإسرائيلية تتحدث عن ثغراث أمنية جادة في نظام قاعدة البيانات، وكانت هذه الوثائق قد تسربت إلى العلن عن طريق الخطأ.
*للقراءة أكثر عن الوضع القانوني للفلسطينيين في القدس المحتلة: http://www.qudsn.ps/article/12254