خاص - شبكة قُدس: في ذروة التوتر بين المستويين السياسي والعسكري في "إسرائيل"، بعد الفضائح التي لاحقت رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ومكتبه، والتي يرى مراقبون أنها من إنتاجالمستوى العسكري الذي لم يعد يرق له إدارة نتنياهو للحرب منذ السابع من أكتوبر 2023، ينشغل الإعلام الموالي والمعارض لنتنياهو في خلق الأزمات التي يراد منها تجنيد الرأي العام لأحد المستويين. اليوم نشر موقع والا العبري تقريرا أشار فيها إلى أزمة الاحتياط في جيش الاحتلال وقد كشف فيه أن 40 ألف جندي لم يستجب لأمر الخدمة العسكرية في وحدات الاحتياط وهذا قد يهدد تحقيق أهداف الجيش في الحرب، وفي المقابل نشرت القناة 14 العبرية تقريرا عن ما أسمته "الظلم" في معايير الاستيعاب للجنود في الوحدات الاستخباراتية في الجيش. ورغم أن الأزمتين مزمنتين، إلا أن إثارتهما في هذا التوقيت يأتي في سياق الدائر ضد الجيش ومعه والذي تقوده أطرافا سياسية ومنظمات وهيئات عسكرية غير رسمية. وفي هذه المقالة نتطرق للوحدات الاستخباراتية والتكنولوجية كمدخل لفهم أزمة الاحتياط في جيش الاحتلال.
رغم الخطاب الإسرائيلي الذي يسوق لأهمية الدور الأمني والاقتصادي للوحدات الاستخباراتية في "إسرائيل"، خاصة في ظل المتغيرات في ساحة المعركة ومتطلبات السوق، إلا أن البيانات التي بدأت تتكشف منذ عام 2012 حول تركيبة هذه الوحدات الاجتماعية، تثير نقاشا طبقيا وإثنيا اتسع ليشمل شرعية نموذج "جيش الشعب"، بحسب دراسة أعدها البروفيسور ياغيل ليفي الحاصل على جائزة "الإنجاز الوظيفي" من الجمعية الأمريكية لدراسة العلاقات العسكرية بالمجتمع، والذي تحدث في مقابلة صحفية عن دراسة لم تنشر بعد، عن ضرورة فحص حقيقة نموذج "جيش الشعب" في ضوء البيانات التي جمعها والتي تشير إلى أن معظم العاملين في الوحدات القتالية وعلى الحدود من الفقراء بينما يعمل في الوحدات الاستخباراتية الأغنياء. وقد انعكس ذلك على البيانات الاجتماعية للجنود القتلى.
تكشف بيانات أفصح عنها جيش الاحتلال الإسرائيلي في نوفمبر 2020 لمجلة ذا ماركر المتخصصة في الشؤون الاقتصادية، أن نسبة الذين يخدمون في الخدمة الإلزامية من التجمعات السكانية التي تحتل المراكز ذات المرتبة المرتفعة؛ 9 و 10 وفقا لمؤشر CBS الاجتماعي والاقتصادي -التابع للإحصاء المركزي- هي 2.5٪ فقط من مجمل جنود الخدمة الإلزامية.
وفقا لذات البيانات التي أفصح عنها الجيش، فإن تمثيل التجمعات التي تحتل المركز 8 في مؤشر CBS داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي هو 28.5٪، أما تمثيلها في الوحدات الاستخباراتية التكنولوجية مرتفع، فالقادمون منها يشكلون ما يقرب من نصف أولئك الذين يخدمون في الحوسبة والبرمجة والمواقع الإلكترونية في الجيش بنسبة 47٪.
يتضح من البيانات أن أولئك الذين ولدوا في التجمعات ذات المستوى الاقتصادي المرتفع لديهم فرصة أكبر للخدمة في مناصب تكنولوجية واستخباراتية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعني الاندماج بعد الخدمة العسكرية في شركات التكنولوجيا العالية، والتمتع بمستوى أعلى من الدخل مقارنة بأولئك الذين يعيشون في التجمعات "الأطراف" من الناحية الاقتصادية. أي أن الوحدات التكنولوجية أصبحت أشبه بنوادي مغلقة للنخب وجيش الاحتلال الإسرائيلي ليس الحيز الذي يمثل الاندماج والمساواة.
ورغم الخطط التي أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي على مدار السنوات الماضية لمعالجة الطبقية داخل وحداته، وتحديدا فيما يتعلق بالوحدات الاستخباراتية التكنولوجية، إلا أن تقريره الذي أصدره في ديسمبر 2022 يشير إلى أن تمثيل التجمعات السكانية ذات المكانة الاجتماعية الاقتصادية المنخفضة وفق مؤشر CBS، منخفض جدا. ويظهر أن 0.22٪ فقط من جنود الوحدات التكنولوجية يأتون من التجمعات السكانية التي تحتل الترتيب رقم 1 (منخفض)، وكلما ارتفع المستوى الاقتصادي للتجمع السكاني، كما زاد تمثيله في الوحدات التكنولوجية التي يشكل جنودها 4% من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وليست الطبقية التي تتسم بها الوحدات الاستخباراتية وحدها التي تهدد نموذج "جيش الشعب"، أيضا الإثنية. حيث أنه في خمسينيات القرن الماضي، شكل الشرقيون النسبة الأعلى داخل الوحدات الاستخباراتية لمعرفتهم باللغة العربية، حتى أطلق عليها في ذلك الوقت "ممالك المزراحيم"، بينما كان الأشكناز الذين ينتمي معظمهم للطبقة الوسطى العلمانية يحتلون حيزا مهما في مراكز الأبحاث في الوحدات الاستخباراتية . لكن إنشاء المدارس والأكاديميات التي تدرس اللغة العربية والتاريخين العربي والإسلامي أعاد للأشكناز الهيمنة على هذه الوحدات من خلال الخريجيين الجدد. ولذلك، فإن هذه الوحدات التي تضم اليوم النسبة الأكبر من الأشكناز، تحولت كذلك إلى ساحة صراع بين الشرقيين والغربيين.
ولم تسلم الوحدات التكنولوجية والاستخباراتية من نقد الحركات النسوية في "إسرائيل"، فمن وجهة نظرها، هذه الوحدات تتركز فيها طبقية اقتصادية، وتتسم تركيبتها بالتمييز الإثني، وأيضا بالتمييز على أساس النوع الاجتماعي. في عام 2016، صرح جيش الاحتلال الإسرائيلي ببيانات حول تركيبة وحداته التكنولوجية والاستخباراتية، يتضح من خلالها أن نسبة النساء كانت 17%. أثارت هذه النسبة موجة نقد لدى النسويات في "إسرائيل"، بسبب أن النسبة لا تتناسب مع نسبة النساء في "المجتمع الإسرائيلي" ككل والتي تقترب من النصف.
وفي 2019 صرح الجيش ببيانات جديدة أشار فيها إلى أن نسبة النساء في هذه الوحدات بلغت 50% وهو ما أثار شكوكا حولها، وقد دفع ذلك الصحافة الإسرائيلية للتحقيق في الأمر، قبل أن يكشف الجيش بموجب قانون الحق في الحصول على المعلومة أنه أعاد تعريف العمل التكنولوجي والاستخباراتي ليشمل مهام غير تكنولوجية مثل الترجمة. وقد قوبل هذا التفسير بالنقد، حيث اعتبرت بعض النسويات الناشطات في مجال "المساواة في الوظائف التكنولوجية في الجيش" من بينهن روتي ليفي أن ذلك تزييف لإخفاء حقيقة التمييز.
في المقابل، تكشف بيانات في وثيقة منشورة في أغسطس 2019 على موقع الكنيست، أن أكثر من 90% من النساء العاملات في الخدمة الدائمة في الجيش، تتركز مهمتهن في وحدات الإسناد ووحدات الخطوط الأمامية القتالية. بينما 3% فقط منهن يعمل في الوحدات التكنولوجية والاستخبارتية.
إن الوحدات التكنولوجية الاستخباراتية تحمل عدة عوامل مرتبطة بانحسار ظاهرة "جيش الشعب". فمثلا النقاش حول تركيبة هذه الوحدات يشغل الصحافة والباحثين وحتى السياسيين والعسكريين في "إسرائيل" منذ عام 2012، وذلك لأسباب تتعلق ببدء اهتمام الصحافة الإسرائيلية بهذا الجانب في ضوء البيانات التي تكشف التوجه الشديد لهذه الوحدات في مقابل التراجع في الإقبال على التجنيد الإلزامي. في أحد التقارير الصحفية التي نشرت في فبراير 2022 على صحيفة يديعوت أحرونوت، وهي من أهم الصحف العبرية، كان العنوان الرئيسي: العمل في الوحدات الاستخباراتية التكنولوجية فقط من نصيب أبناء الأغنياء. كشفت الصحيفة في تقريرها استنادا لمعلومات زودها بها الجيش أن 75% من الجنود في هذه الوحدات هم من الأغنياء. عشرات التقارير التي كتبت حول القضية في السنوات الأخيرة، دفعت بهذا النقاش إلى مستويات عليا بالتوازي مع نقاش مستمر حول "العبء والمنفعة" في "جيش الشعب".
وقد توسع النقاش في العقد الماضي حول ظاهرة "جيش الشعب" في وسائل الإعلام والمجتمع الأكاديمي ومعاهد البحث، وكذلك بين رؤساء المؤسسات الأمنية ووزارة المالية والكنيست، بدءا من العام 2012، وهو العام الذي كشف فيه تحقيق صحفي لمجلة ذا ماركر عن دور الجيش في رفد قطاع التكنولوجيا الخاص بالجنود، وقارن التحقيق بين ما يقدمه الجيش لجنود الخدمة الإلزامية مقابل ما يقدمه لجنود الوحدات التكنولوجية، لتتوالى بعد ذلك التقارير الصحفية والمنشورات والمقالات التي تحمل في طياتها هذه المقارنة، وهو ما عزز الخطاب المضاد لظاهرة "جيش الشعب" وأدى لانحسارها. تأتي الانتقادات المتعلقة بالظاهرة من اتجاهات مختلفة، من بينها: ما هي أهمية "جيش الشعب" في وقت أصبحت نسبة المتسربين كبيرة؟ وما هي حقيقة المساواة في هذه الظاهرة التي لا تحقق للجنود مزايا وخدمات متساوية؟ .
بالتوازي مع هذا النقاش ظهرت قيم جديدة مرتبطة بالخدمة العسكرية، فالدعاية الإسرائيلية الكثيفة حول دور التكنولوجيا في حماية "إسرائيل"، ودورها في الاقتصاد، أصبح يضع الجندي المحارب في مرتبة أقل مقابل الجندي في الوحدات التكنولوجية الاستخباراتية، رغم أن جهده أكبر وما يحصل عليه من مزايا أقل مقارنة بنظيره في الوحدات الاستخباراتية، فمثلا يشير رئيس أركان جيش الاحتلال السابق أفيف كوخافي في محاضرته في جامعة رايشمان، إلى مساهمة الجيش في الاقتصاد من خلال الصناعات التكنولوجية والتدريب المهني، معتبرا أن الجيش أصبح بمثابة مشروع توظيف ومساهم في الاقتصاد الإسرائيلي واقتصاد الأفراد. بينما لم يتعرض للجنود في الوحدات القتالية ولم يذكرهم. لذلك، نجد بعض الباحثين الإسرائيليين يوصون بضرورة تقليل شعور اللامساوة داخل وحدات الجيش كحل لهذه الأزمة.
تكشف تقارير صحفية إسرائيلية، من بينها تقرير لمجلة ذا ماركر منشور في 10 يوليو 2022، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يزيف أرقام الجنود الذين يخدمون في الخدمة الإلزامية، وفي ذات التقرير يعترف مسؤول سابق - رفض الكشف عن اسمه - في قسم الأفراد بالجيش أن من يخدم بالفعل لا يتجاوز 4% لكن هذا ممنوع من النشر في التقارير الرسمية. ويجادل ياغيل ليفي صاحب كتاب "من جيش الشعب إلى جيش الأطراف" في مقابلة أعدها معدّ التقرير أن نموذج جيش الشعب لم يعد له تمثيل حقيقي إلا في الإعلانات الدعائية للجيش.
ومع اتساع دائرة النقاش حول امتيازات الخدمة العسكرية في الوحدات التكنولوجية والاستخباراتية التابعة للجيش، بالتوازي مع النقاش حول تركيبتها الطبقية والجندرية، شكلت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وعلى وجه التحديد وزارتي المالية والتطوير، لجنة لفحص الظاهرة. وفي نوفمبر 2022 قدمت اللجنة تقريرها تحت عنوان "زيادة رأس المال البشري للتكنولوجيا الفائقة"، وشملت توصياتها بأن يكون تمثيل التجمعات السكانية الفقيرة في الوحدات التكنولوجية في الجيش بما لا يقل عن 30٪ بحلول عام 2026، وكذلك نسبة عدد النساء بما لا يقل عن 33٪ بحلول العام المذكور.
التقرير الحكومي الإسرائيلي يعترف بالفروق الطبقية داخل هذه الوحدات ويصفها بـ "مشكلة مزمنة". ويوضح أن "الخدمة العسكرية في وحدة تكنولوجية استخباراتية أصبحت نقطة انطلاق ضرورية للعمل في مجال التكنولوجيا الفائقة، حيث توفر الخدمة للجنود، التدريب المهني والخبرة وشبكة اتصالات مع خريجي الوحدات الآخرين، فلم يعد ممكنا التقليل من دور الخدمة في الوحدات التكنولوجية في دمج جنودها في القطاع الخاص، بالنظر إلى أن نسبة كبيرة من الموظفين في المهن التكنولوجية المرغوبة لديهم خلفية تكنولوجية في الخدمة العسكرية".
أدت هذه العلاقة الوثيقة بين الخدمة العسكرية في الوحدات التكنولوجية الاستخباراتية، والالتحاق في سوق العمل في القطاع التكنولوجي ما بعد الخدمة، إلى إثارة نقاش حول "العبء والمنفعة" في وحدات الجيش، وتحديدا فيما يتعلق الخدمة الإلزامية، وقد كانت الصحافة الإسرائيلية ووسائل التواصل الاجتماعي هي الساحة الأهم لهذا السجال. وراجعنا في هذه المقالة 20 تقريرا صحفيا بين عامي 2012 - 2022، حول الخدمة في الوحدات التكنولوجية الاستخباراتية وانعكاساتها على مستقبل عمل الجندي العامل فيها، ولم تخلو هذه التقارير من محاور تشير إلى نموذج جيش الشعب القائم على الخدمة الإلزامية، وانعكاسات هذا النوع من الخدمة سلبا على المستقبل العملي للجنود، من حيث عدم استيعابه في سوق العمل. ورغم توسع هذا النقاش، إلا أن الأدبيات الحديثة في الفترة المذكورة تخلو من هذا النقاش ولا تتعرض له، وإنما تركز بشكل أساسي على سياقات طويلة الأمد تتعلق قيم مجتمع السوق وانعكاسها على الموقف من الخدمة الإلزامية، وقد يكون السبب هو ما تذهب له غالبية الأدبيات بأن الجيش يجب أن يبقى مصدر إجماع في السياق الإسرائيلي ورمز للولاء الوطني، وبالتالي يجب أن لا يشار إلى أسباب ذاتية تتعلق فيه هي من عززت هذا الانحسار في "جيش الشعب".