البراديم الصهيوني، أو النموذج الفكري لما تُسمى "إسرائيل" هو نموذجٌ استيطانيّ يقوم قبل كل شيء على مبدأ الدولة، حيثُ في أدبيات الاستعمار الكلاسيكية يكمن فرق جوهري بين تجارب التاريخ الاستعمارية، وبين فكرة "دولة إسرائيل" وهو أن اليهود كانوا يبحثون عن "وطن" لا عن أبعاد اقتصادية للفكرة الاستعمارية، وهذا ما يؤكده الكثير من الباحثين مثل فايز الصايغ، وايلان بابيه، والأهم هنا ما يؤكده ثيودور هيرتزل في كتابة الدولة اليهودية.
منذ مؤتمر بازل في 28 أغسطس/آب 1897 بالحد الأدنى كان اليهود يعيشون في جذور التناقض بين فكرة "إسرائيل" وبين التاريخ والواقع، وذلك بشكل عميق طريف، وفي هذا السياق يُبرهن ايلان بابيه في كتابة فكرة اسرائيل كيف فشلت هذه الفكرة في تسويق نفسها أمام العالم كفكرة إنسانية طبيعية. ولذلك سعى الاحتلال بكل الطرق الممكنة لتثبيت جذور روايته مستنداً على الدين، والحفريات تحت المسجد الأقصى، وتأسيس للفكرة أيضاً من خلال الادب الصهيوني، والشعر، والتاريخ، والأهم من خلال القوة العسكرية، والأخيرة نشهد تجلياتها في الحرب الدائرة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وصل الهذيان لدى الاحتلال في سبيل اثبات الرواية حد سرقة القطع المعدنية "الآثار" لأقناع العالم بحقه في أرض فلسطين، وإقامة "الوطن القومي" الذي جاء كهدية استعمارية لفكرة استعمارية من خلال البريطانيين عبر وعد بلفور في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ولذلك تلقف هيرتزل وبن غورين وجابوتنسكي وغيرهم من مؤسسيين الصهيونية لتطبيق هذا الوعد عن الطريق القوة، وتحديداً بالتفوق العسكري، ويبقى هنا سؤال مهم: لماذا التفوق العسكري؟
في سياق التفوق العسكري، يقوم الصحفي "بوب وودورد" بنقل كلمات مهمة عن لسان رئيس وكالة المخابرات الامريكية "وليم بيرنز"، من خلال كتابه الحرب، إذ يقول "بيرنز": "إن التفوق العسكري يمنحك القدرة على الحسم، وأكثر القدرة على المهاجمة"، وهذا الأمر تماماً ينطبق على فكرة تطبيق دولة "إسرائيل"، فمنذ عام 1948 والمعروف بعام النكبة لدى الفلسطينيين، بمعنى التشريد والتهجير، والطرد من الأرض، وعام المعجزة لدى الاحتلال، بمعنى نهاية 2000 عام في المنفى، نشأ صراع الفكرة، وفي هذا العام كان الاحتلال يستخدم القوة العسكرية، والتفوق العسكري لحسم الفكرة، ولكن الأهم منذ هذا العام بدأت فكرة دولة "إسرائيل" تذهب نحو حتفها.
إذن، ما بين الفكرتين يستمر الصراع منذ عام النكبة 1948، ولكن الجدير بالذكر هنا أن المقاومة في 7 أكتوبر/ تشرين الثاني 2023 تمكنت من صناعة شق كبير في نظرية "التفوق العسكري للفكرة"، حيثُ تمكنت من المهاجمة، والحسم في ظل اختلال التوازن العسكري، ويأخذنا هذا الطرح إلى القول إن القضية ليست في الرصاص، ولا اليد التي تُمسك السلاح، إذ في سياق النفس البشرية يأتي الأمر من الدماغ، وهناك المعمل الحقيقي للأفكار، ولذلك اثبتت معركة "طوفان الأقصى" أن الصراع ليس بين الرصاص، والأيدي، والأسلحة...، وعليه التفوق العسكري ليس سبباً لتحقيق الانتصار، لأن الصراع ما بين الأفكار ذاتها، والسلاح، والرصاص، والطائرات هي بمثابة أدوات، ولكن الأفكار بعمق جذورها هي التي تنتصر، وصاحب الرواية الحق، هو صاحب القوة.
بعد معركة "طوفان الأقصى" وضعت فكرة "إسرائيل" على المحك، واستشعر الاحتلال خطورة الزوال، وقضية الوجود، وهذا ما جعله يذهب نحو الإبادة والمجازر حد أنه فقد صوابه، وجنونه، ومارس أبشع أنواع الجرائم في القرن الحديث، فالفكرة يُفند صوابتيها من خطأها هو الواقع، والواقع هو الغربال، وفي ذات السياق ما بعد "طوفان الأقصى" أصبحت فكرة "إسرائيل" بمثابة حلم طوباوي، أو يوتوبيا على عكس ما كان يُفكر ثيودور هيرتزل في كتابه الدولة اليهودية، بأنها فكرة واقعية.
ما بين الفكرة والدولة يعيش الاحتلال مأزق تاريخي ما بعد معركة "طوفان الأقصى"، حيثُ أثبتت هذه المعركة بالرغم من تفوق "إسرائيل" عسكرياً واقتصادياً على الشعب الفلسطيني، إلا أنه ما زال للفلسطينيين فكرة، وأكثر رواية من اللازم أن تُروى، ولا بد أن العالم سيقبلها. واليوم، وبخلاف ما كانت عليه الحال في مطلع تثبيت الفكرة الصهيونية، فإن السردية الصهيونية للتاريخ أصبحت في نظر الكثيرين حول العالم، نوعاً من البروباغندا، بينما بدأت حقيقة الذي جرى وما زال يجري في فلسطين تتجلى وترى النور أكثر فأكثر، وتحديداً أمام المأزق الأخلاقي الذي يعيشه الاحتلال بعد ارتكاب المجازر، والإبادة بحق الشعب الفلسطيني.
على مدار تاريخ الصراع حاول الاحتلال تثبيت فكرته عبر تغيير التاريخ، في تحدٍّ علني لحقائق هذا التاريخ، ولكنه كان، وما زال، وسيبقى يواجه ستار فولاذي في سعيه المستمر لتطبيق هذه الفكرة على أرض فلسطين، لوجود سكان عليها هم أصحاب الفكرة التاريخية ذات الجذور الإنسانية، والأخلاقية، والطبيعية. وعليه بعد حرب الإبادة التي تقوم بها الفكرة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، بات من الضروري ليس فقط محاسبة قيادات الاحتلال على هذه الجرائم، بل محاسبة الفكرة ذاتها.