بيروت - خاص قدس الإخبارية: في 12 تموز/ يوليو 2006 قطع الهدوء على الحدود بين فلسطين المحتلة وجنوب لبنان، رشقات الصواريخ وقذائف المدفعية التي أطلقتها وحدات حزب الله نحو مستوطنات ومواقع عسكرية، للتغطية على قوة كانت تستعد للدخول عبر "خلة وردة" قرب عيتا الشعب لأسر جنود إسرائيليين لتحقيق هدف إجراء صفقة تبادل أسرى. استهدف عناصر وحدة "سلاح المضاد للدروع" درويتين عسكريتين كانتا في مهمة في المنطقة ثم اندفع مقاتلو الحزب وأسروا الجنديين غولدفاسر وريجيف.
بعد العملية أطلق جيش الاحتلال عملية عسكرية، في جنوب لبنان، تطورت إلى حرب استمرت لمدة 33 يوماً، انتهت بإنجاز استراتيجي لحزب الله وإخفاق لجيش الاحتلال خاصة على المستوى العملياتي فيما يتعلق بالحرب البرية باعتراف المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية.
واليوم بعد 18 عاماً من حرب تموز يخوض جيش الاحتلال مواجهة برية مع حزب الله في جنوب لبنان فما هي عوامل التشابه والاختلاف بين المواجهتين.
بين حربين… اختلاف البدايات
بعد عملية الأسر دفع غال هيرش الذي كان يشغل قيادة الفرقة "91"، ويتولى حالياً مسؤولية ملف متابعة الأسرى والمفقودين الإسرائيليين بقوة لملاحقة مقاتلي حزب الله الذين أسروا الجنديين، وأمام عينيه شاهد كيف طار برج دبابة الميركافا بعد أن صعدت على لغم زرعه الحزب مسبقاً على تلة تشرف على عيتا الشعب. سببت هذه الضربة بصدمة كبيرة لهيرش الذي يعيش سلسلة صدمات منذ إصابته بحجر قرب بلدة بيرزيت شمال رام الله، في التسعينات، تسبب له بإصابة بالغة وتشوهات في الوجه.
بدأ جيش الاحتلال حرب 2006 بصدمة بعد عملية الأسر وعملية تفجير دبابة الميركافا، وكانت النظرية التي يعمل عليها رئيس أركانه حينها دان حالوتس القادم من سلاح الجو هو أن لا حاجة لتنفيذ عمليات برية في الأراضي اللبنانية، بل يجب تنفيذ عمليات قصف جوي لبنك الأهداف الذي طورته الاستخبارات العسكرية قبل الحرب.
الحملة الجوية المكثفة التي شنها طيران الاحتلال على لبنان والبنية التحتية والمدنية، لم تمنع حزب الله من الاستمرار في عمليات القصف الصاروخي التي تدرجت وصولاً إلى حيفا، ضمن معادلة أعلن عنها الأمين العام للحزب الشهيد حسن نصر الله، في سياق حرب على الخاصرة الرخوة لدولة الاحتلال وهي المجتمع والتجمعات المدنية، استغلالاً لعوامل جغرافية وسياسية، بينها أن كيان الاحتلال لا يملك عمقاً كبيراً ومعظم منشآته الاستراتيجية والهامة تقع في الشمال وهي في متناول الحزب، ويمكن لقوة تجمع بين حرب العصابات والتشكيلات النظامية أن تضغط على مجتمعه عبر الإنهاك المستمر من خلال المقذوفات الصاروخية.
امتنعت قيادة أركان جيش الاحتلال والحكومة في بداية حرب 2006 عن إطلاق حملة برية، في جنوب لبنان، ولكن إخفاق القصف الجوي في إخماد نيران وصواريخ حزب الله، أدخلتها إليها مضطرة وكان لهذا نتائج قاسية على القوات في الميدان.
ودخلت قوات الاحتلال العملية البرية، في لبنان، حينها وظلال من الشك تخيم على قدرتها في مواجهة حزب الله الذي يعمل في سياق عملياتي محكوم لـ"حرب عصابات" مع تنظيم يشبه الجيوش لكنه لا يلتزم بما عليها من ترتيبات قتالية، وكان هذا الرأي له محل شبه إجماع بين قيادات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وفي مؤتمر عقده رئيس أركان جيش الاحتلال السابق موشيه يعالون، في 2003، لبحث التغييرات التي كان يسعى لإدخالها على الجيش، قال قائد القوات البرية حينها يفتاح رون - طال إن "الجيش فقد المهارات الأساسية للقتال في لبنان مثل خوض معارك في محور جبلي"، هذا ترافق مع انغماس قوات الاحتلال في القتال داخل القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية في الضفة وغزة خلال انتفاضة الأقصى.
بدأ جيش الاحتلال الحرب الحالية مدفوعاً بـ"الانتشاء" بعد ضربات استخباراتية وأمنية وجهها للجسم التنظيمي والعسكري، في الحزب، كان أقساها اغتيال الأمين العام حسن نصر الله.
لم يصدر جيش الاحتلال حتى اللحظة رواية أو أهدافاً واضحة تظهر إلى أين يريد أن يصل في العملية العسكرية البرية التي يشنها حالياً، في الجنوب، بعض المصادر الإسرائيلية تقول إنه يريد تدمير القرى الجنوبية الملاصقة للحدود مع فلسطين المحتلة، وترى أخرى أن الهدف هو السيطرة على التلال الحاكمة التي تتيح له التحكم بالمنطقة كاملة وصولاً إلى نهر الليطاني لمنع الحزب من تنفيذ عمليات عسكرية انطلاقاً من المنطقة، بينما يذهب بعض السياسيين والعسكريين السابقين والحاليين في حكومة الاحتلال إلى استنساخ تجربة الشريط الأمني واحتلال الجنوب كما في فترة الثمانينات والتسعينات، رغم التحذيرات من تكرار التجربة لما لها من ذاكرة أليمة على الجيش والمستوطنين بعد الاستنزاف والخسائر الفادحة في الضباط والجنود.
اعتبرت القيادة السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال أن الضربة التي تلقاها الحزب ستكون سبباً لانهيار قواته، في الجنوب، وفقدانها منظومة القيادة والسيطرة وهو ما سيجعل من السهل تفكيكها وتوجيه ضربة لقوات المشاة المنتشرة في المنطقة.
وخلافاً لحرب 2006 فإن الاحتلال بدأ المعركة البرية بعد "إنجاز تكتيكي" حققه، وبعد سنوات نفذ فيها عدة مناورات ووضع خططاً مختلفة للقتال مع حزب الله، رغم ما لاقته خطط قادة الأركان الذين تناوبوا على المنصب في السنوات الماضية، من انتقادات من ضباط وقادة عسكريين سابقين بسبب ما اعتبروه تقليصاً للقوات البرية وإهمالاً لتدريب الاحتياط، وهو ما ظهر في القتال في قطاع غزة انطلاقاً من عملية "طوفان الأقصى".
العقدة اللبنانية
بعد أيام من التردد بدأ جيش الاحتلال عملياته البرية، في حرب 2006، بإدخال قوة خاصة تابعة لجهاز حرس الحدود التابع للشرطة إلى القسم الشمالي من قرية الغجر، ثم شاركت قوة من وحدة "شلداغ" الخاصة التابعة لسلاح الجو في الاستيلاء على موقع يبعد مسافة قصيرة عن مستوطنة "زرعيت"، وسيطرت كتيبة تابعة للواء "300" على قرية مروحين، وهذه العمليات لم تفارق المناطق المحاذية للحدود، ولم يكن لها تأثير على استمرار عمليات حزب الله الصاروخية.
وفي أوج العمليات أصدر شعبة العمليات في هيئة أركان جيش الاحتلال أمراً عملياتياً لقيادة المنطقة الشمالية، حمل صياغة مرتبكة وغير واضحة، وهو "شل حزب الله كتنظيم فعال" ويتضمن "الانقضاض، ضرب قدرة القيادة، السيطرة، قطع الرأس"، ورغم وجود خطة مسبقة وضعها جيش الاحتلال في سنوات ما قبل الحرب وتدرب عليها حملت اسم "المياه العالية"، إلا أن الارتباك رافق أداء قياداته وقواته البرية حتى نهاية الحرب.
وخلال عمل قوة من وحدة "ماغلان" الخاصة قرب موقع قديم كان يشغله جيش الاحتلال، خلال فترة احتلال الجنوب، وسيطر عليه حزب الله لاحقاً، تعرض جنودها لإطلاق نار كثيف من مقاتلي الحزب وأوقعوا فيها خسائر كبيرة. بعد هذا الكمين بدأ جيش الاحتلال عملية نحو قرية مارون الراس الواقعة على ارتفاع 900 متر وتشرف على مساحة واسعة في شمال فلسطين المحتلة وجنوب لبنان.
بعد الحرب قال ضباط في القيادة الشمالية إن الهجوم على القرية كان خياراً سيئاً، وبعد الكمين الذي تعرضت له قوة "ماغلان" ثارت انتقادات وخلافات في الجيش وشعبة الاستخبارات، حول انعدام المعلومات عن مواقع وكمائن لحزب الله في المنطقة. تقدمت كتيبة من لواء المظليين نحو مارون الراس لكن التقدم كان بطيئاً وسط نيران مقاتلي حزب الله، وقرر غال هيرش إدخال وحدة "إيغوز" إلى المنطقة رغم أنها كانت تستعد لمعركة في زبقين، ومرة أخرى تعرض غيرش لانتقادات لاذعة بسبب قراره الارتجالي، وبعد اجتيازها الخط الجبلي تعرضت الوحدة لهجوم بالأسلحة المضادة للدروع وقتل خمسة من عناصرها بينهم قائدها.
وفي عيتا الشعب، عمل الاحتلال على تنفيذ عمليات محدودة في محيطها بهدف الاستطلاع بالنار، وقابلت المقاومة هذه النشاطات بتنفيذ عمليات قصف على مركز قيادة الفرقة "91" في معسكر "بيرانيت"، ثم حاول لواء المظليين الدخول إليها من الشرق لكنه واجه مقاومة عنيفة وفشل في المهمة، وهو ما حصل مع المحاولة الثانية من الناحية الشمالية، وبعد معركة شرسة سقط فيها قتلى وجرحى من جنود جيش الاحتلال انسحبوا إلى محيط البلدة، ورغم مكابرة الضباط الكبار بإصدار قرار بالانسحاب، قرر لواء "الكرمل" الانسحاب من ذاته دون أمر قيادي، وطوال أيام الحرب تعرض جيش الاحتلال لكمائن قاتلة في البلدة وتكبَد خسائر فادحة في العسكريين والمعدات.
قائد القوات البرية في جيش الاحتلال حينها كان بيني غانتس الذي سيصل لاحقاً إلى منصب قيادة الأركان، ثم وزيراً للجيش، ولاحقاً عضواً في حكومة الحرب التي شكلها نتنياهو بعد "طوفان الأقصى"، قبل أن يستقيل ويعود إلى صفوف المعارضة. اقترح غانتس تنفيذ عملية برية في مدينة بنت جبيل لتحقيق فكرة الحصول على "إنجاز جوهري في مكان واحد" بعد فشل العمليات العسكرية في تحقيق تدمير حزب الله أو وقف إطلاق الصواريخ، وسط الإرباك والخلافات و"حرب الجنرالات" التي اندلعت بين الضباط على إثر الإخفاقات المتكررة، وانعدام تحديد الأهداف الدقيق من العملية.
بعد جدال ونقاشات حول الخطة العسكرية المثلى للهجوم على بنت جبيل، قررت قيادة جيش الاحتلال الالتفاف على المدينة من جهة الشرق عن طريق لواء "جولاني" ومن الغرب باستخدام المظليين ويعمل اللواء السابع من جهة الجنوب، وشددت القيادات العسكرية على عدم التورط في معركة داخل بنت جبيل واستخدام نيران كثيفة بهدف قتل أكبر عدد من مقاتلي الحزب. ورغم تحذيرات شاؤول موفاز رئيس الأركان السابق رئيس حكومة الاحتلال حينها أولمرت من خطورة الزج بقوات قليلة في المنطقة، واقتراحه التوجه بعملية عسكرية واسعة نحو مدينة صور، إلا أن قيادات الجيش استمرت في الخطة.
بعد دخولها إلى المناطق المبنية وقعت قوات الاحتلال في الكمائن التي أعدها مقاتلو حزب الله سابقاً وتكبدت خسائر فادحة.
طوال أسابيع من الحرب تمسكت قيادة الاحتلال بمفهوم وصفه الضباط بأنه "مشوه"، وهو إدخال القوات إلى مناطق ثم إخراجها، وهو ما ساهم في الضرر النفسي الكبير للجنود الذين كانوا بعد كسر "الهيبة النفسية" من الدخول إلى لبنان، يجري إخراجهم مجدداً بعد الاشتباك مع مقاتلي حزب الله.
وبعد أسابيع من القتال قرر الاحتلال خوض معركة تحقق له صورة انتصار، ودفع بالفرقة العسكرية "162" نحو وادي الحجير "السلوقي"، الذي يمتد عميقاً في مناطق مختلفة من الجنوب اللبناني، وعلى الهواء مباشرة دمرت وحدة الدروع في حزب الله باستخدام صواريخ "الكورنيت" التي أصبحت من رموز الحرب، عدة دبابات "ميركافا" التي كانت هي الأخرى رمزاً عسكرياً في تاريخ جيش الاحتلال.
وفي معركة السلوقي - الغندورية سقط 16 جندياً من اللواء "162" من بين 33 قتلوا في القطاع الغربي من جنوب لبنان. وتحطمت محاولة جيش الاحتلال تسجيل نصر على حزب الله في نهاية الحرب.
خلال سنوات ما قبل الحرب وضع القائد العسكري في جيش الاحتلال، تشيكو تامير، الذي يملك خبرات عسكرية خلال فترة القتال في جنوب لبنان ثم توليه قيادة "فرقة غزة"، خطة لقتال حزب الله تقوم على فكرة "اللكمة القاضية" وهي توجيه ضربات للبنية العسكرية عن طريق الدفع بالقوات الخاصة والاستيلاء على التلال الحاكمة وسط غطاء ناري كثيف والنيران الدقيقة وشل قدرات العدو.
والمفهوم الرئيسي في الخطة هو العمل السريع والصادم والخاطف، والتنسيق العالي بين الوحدات المختلفة في الجيش (الاستخبارات، البحرية، الطيران، القوات الخاصة) وغيرها.
حشد جيش الاحتلال الفرق (146، 36، 91، 98) لقتال حزب الله، ووزعها على مختلف القطاعات الغربية والوسطى والشرقية، وتضم هذه الفرق ألوية مشاة من النخبة والاستخبارات والمدرعات والقوات الخاصة.
بدأ جيش الاحتلال القتال البري بالدفع بقوة "إيغوز" الخاصة قرب بلدة العديسة لكنها تلقت ضربة وتكبدت خسائر فادحة، بعد أن وجه لها مقاتلو الحزب ضربات بالأسلحة المضادة للدروع. ثم دفع الاحتلال قواته في محاولة للدخول إلى بليدا، ومحيبيب، ومارون الراس، وعيتا الشعب، والقوزح، ويارون، وراميا في محاولة لفتح ثغرات وتثبيت رأس جسر في مختلف المحاور.
فشل جيش الاحتلال حتى هذه اللحظة في تثبيت قواته والانطلاق من المواقع والسيطرة على التلال، نحو الجنوب، وما زالت مرحلة الاستطلاع بالنيران ومحاولات التسلل مستمرة وسط تصد من قبل وحدات حزب الله بالأسلحة المدفعية ومضادات الدروع والاشتباكات المباشرة.
وحاول الاحتلال إجراء عمليات خداع لقوات حزب الله عبر الاختباء خلف مواقع قوات "اليونيفيل"، والتسلل عبر رأس الناقورة، والإيهام بنيته إجراء عمليات إنزال بحري، إلا أن الحزب واصل إفشال هذه المحاولات، وتكبيد قوات المشاة والوحدات الخاصة خسائر فادحة.
وبالتوازي مع عمليات التصدي وجه حزب الله ضربات بالصواريخ والمسيرات لقوات الاحتلال المنتشرة في المستوطنات الشمالية بهدف إرباكها ومنعها من التنظيم والهجوم.
وتتداول مصادر إعلامية إسرائيلية أن جيش الاحتلال يجري عمليات تجريف في الأراضي السورية قرب المناطق المحتلة من الجولان، واختلفت التقديرات حول هل ينوي الاحتلال تنفيذ عمليات برية في سوريا، أم الدخول عبر مزارع شبعا المحتلة.
وما زالت الحرب تحمل تطورات ومفاجآت ولم يضع كل طرف أوراقه كاملة، وقد تحمل الأيام المقبلة مفاجآت من جانب المقاومة أو قوات الاحتلال ولكن المؤكد أن الاغتيالات والعمليات الأمنية الإسرائيلية لم تزعزع التنظيم العسكري لحزب الله واستطاع التصدي لمحاولات جيش الاحتلال التقدم في الأراضي اللبنانية.