في أكبر ساحة مفتوحة داخل قطاع غزة وعلى جميع شاشات التلفزة أعلنت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في مهرجان انطلاقتها الخامس والثلاثين أنها ستنفذ عمليتها العسكرية الأكبر في تاريخ الصراع مع الاحتلال، كإحدى أبرز وأعظم رسائل التحدي لكيان يملك أكثر المنظومات الاستخبارية تقدمًا في المنطقة، إذ أعلنت الحركة اسم العملية على أكبر يافطة مطبوعة قبل عشرة أشهر من تنفيذها "نحو القدس.. آتون بطوفانٍ هادر"، وخرج قائد أركان كتائبها في خطاب هو الأول من نوعه خلال مهرجان لانطلاقة الحركة وهو الذي لا يكون ظهوره مرتبطًا إلا بحرب، في رسالة حملها مهرجان تابعه ملايين البشر فلسطينيًا وعربيًا، فلماذا لم تلتقط أكثر منظومات الاستخبارات تقدمًا في العالم رسالة شاهدها الملايين؟
ولتفكيك بعض أجزاء صورة الفشل الاستخباري الأكبر في تاريخ الكيان منذ احتلاله للأرض الفلسطينية، نقف على رسائل التحدي والتهديد الصريح الذي تضمنه "آتون بطوفان هادر" ونرجسية المنظومة الاستخبارية التي أعمتها عن تقدير أهداف المقاومة الحقيقية، وعن الجودة الكبيرة التي أظهرتها منظومات استخبارات المقاومة وقيادتها في أكبر عملية تضليل استخباري لقيادة الاحتلال.
رسائل التحدي في مهرجان الطوفان
نظمت حركة حماس مهرجانًا مركزيًا لانطلاقتها الخامسة والثلاثين بساحة الكتيبة في غزة من يوم الأربعاء بتاريخ 14/12/2022 في واحدة من أكثر مشاهد النظام والترتيب الممكن لحشد جماهيري عربي، بعد عدة سنوات من وقف تنظيمه واقتصار الفعاليات على مسيرات جماهيرية في المحافظات، إذ ضُبط إيقاع المنصة بصورة فريدة مع الاستعراضات الميدانية في مسرح المهرجان الذي نفذته الجوقة العسكرية للكتائب بافتتاح "أنا آتٍ يا شعبي.. أنا درعك في الحرب" والتي توسط ألحانها كلمة لقائد هيئة أركان الكتائب محمد الضيف أطلق فيها العنان لتدشين أول معركة تطبق وحدة الساحات "فلتتوحد كل الرايات ولتفتح كل الجبهات ولتلتئم كل الساحات لهدف واحد وغاية عظيمة كبيرة ممتدة وهي تحرير فلسطين"، فأنشدت الجوقة من بعدها "أنذرناهم لم يعتبروا، اليوم فما تغنِ النذر، وبأمر الضيف كتائبنا لا تبقِ هناك ولا تذر".
كما تخلل الاستعراض تسيير سرب من المسيرات في مسرح المهرجان متناغمًا بالثواني وأجزائها مع الخطاب الفصيح الذي أطلقته الجوقة العسكرية لكتائبها "الله أكبر كلما فعل الرجال تكلمَ، فالآن من بين الغمام ضيف الزواري تقدمَ".
وانتهى المهرجان برسائل مباشرة غير قابلة للتأويل حملها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في غزة يحيى السنوار بقوله: "نحن لا نخشاكم ولا نخشى تهديداتكم، وقد جرّب شعبنا ومقاومتنا من هو أشرس وأعتى منكم، وشعبنا سيأتيكم بطوفان هادر لاقتلاعكم" وأن الحركة ستكون في العام المقبل 2023 أمام استحقاقات وطنية كبرى، داعيًا الجميع إلى "الاستعداد للدفاع عن المسجد الأقصى، مطالبًا بأن تكون كل قوى المقاومة وأمتنا مستعدة للزحف بطوفان هادر لاقتلاع الاحتلال الصهيوني."
النرجسية حين التفت حول رقبة الكيان
لربما ارتبط الفكر الصهيوني منذ تأسيس دولة الكيان وتطويرها كمستعمرة متقدمة للنظام الغربي في قلب المنطقة العربية بأدبيات يهودية تعدّ اليهود عرقًا نقيًا أسمى من بقية بني البشر وأنهم شعب الله المختار، ولربما تغذى هذا الوهم بالتفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي لدولة الكيان مقارنة بمحيطها في دول المنطقة، فضلًا عن امتلاكها إحدى أكثر منظومات الاستخبارات في العالم تقدمًا وتطورًا، فهي الكيان الوحيد في العالم الذي وُجد نظامه الأمني قبل نشأته وتكوينه، ما أفرز حالة مضطردة ومتزايدة من غرور القوة المستندة للمعرفة الاستخبارية الدقيقة طيلة مراحل الصراع العربي الصهيوني.
تتسم حركات الاحتلال والاستعمار في العالم عادةً بسِمَة مشتركة وبصمة في الـ DNA المكون لها بأنها تعامل الشعوب التي احتلتها بنوع من الازدراء والاحتقار، فكيف لكيان أصلًا يرى في كل البشر درجة متدنية عنه أن يقدر القوة الكامنة في شعبٍ واقعٍ تحت احتلاله ونير آلته الحربية لعقود طويلة خلت، بل وكيف له أن يرى خطرًا يتهدده ويتحداه من حركة ظنّها مكبّلةً للأبد في أعباء حكم قطاع غزة الذي أغرقه هو ذاته بأزمات لا تنتهي سعى خلالها لخلق دوامة تدور فيها المقاومة في حلقة مفرغة بلا أي أفق إستراتيجي سعيًا لتفكيك تلك الأزمات، بينما يتسنى له إنضاج مشاريع سياسية تصفي الحق الفلسطيني في الكيانية والوجود، في سياسة استعلائية لا ترى الفلسطيني أصلًا محورًا مهمًا في تلك المشاريع والترتيبات الاستراتيجية مع دول الجوار والمنطقة.
فأعمت حالة غرور القوة والثقة المطلقة بالقدرات الاستخبارية -التي ربما تعرف تفاصيل دقيقة في المشهد الفلسطيني المقاوم وتحقق بعض الإنجازات التكتيكية الاستثنائية-، تلك المنظومة عن رؤية الصورة الأوسع والأشمل في تقدير أعدائها وأهدافهم الاستراتيجية وقدرتهم على اتخاذ القرارات الخطيرة وامتلاكهم الأدوات اللازمة لإنفاذ قراراتهم، فما من فشل أعظم وأكبر من أن تمنى به منظومة تقرأ أدق الحروف والرموز وتخطئ استراتيجيًا في قراءة العنوان!
أدوات مبتكرة لخطة الخداع الاستراتيجي
عادة ما تابع المهتمون بالشأن الفلسطيني المقاوم في غزة قرار وتوجهات الاحتلال بالسماح لعمال من قطاع غزة ضمن التفاهمات التي رعتها قطر بين حماس والاحتلال لتفكيك الحصار المشدد على غزة بعين من الريبة والشكّ، وقيّمته على أنه مهدد استخباري يسمح للعدو بالتواصل مع فئة أكبر من الجمهور في غزة، والذي بقي بعيدًا عن دائرة الاحتكاك المباشر مدنيًا أو اقتصاديًا مع الاحتلال منذ ما يزيد عن 20 عامًا، ما قد يفتح المجال لتجنيد أصناف جديدة من العملاء الذين يمكنهم تنفيذ أنشطة استخبارية لصالح الاحتلال في قطاع غزة وفقًا لتلك التقديرات في حينه.
إلا أن قيادة حماس واستخبارات المقاومة تمكنّت من تمرير هذه الورقة كواحدة من أبرز أدوات الخداع الاستراتيجي، فتمسكت دائمًا بمطالبات لزيادة شريحة العمال إلى أكبر قدر ممكن لتحسين الوضع الاقتصادي في غزة على غرار ما يجري في الضفة الغربية، مع استمرار حماس وبرنامجها المقاوم في صورة حكم القطاع، وهو ما قرأه الاحتلال بأنه هدف لحماس والتي تكون بذلك قد ضمنت تحقيق غزة كأول بقعة ترفع شعار المقاومة وتتمتع برخاء اقتصادي، وفي ذلك الفلك دارت منظومات الاحتلال السياسية والأمنية وفاوضت حماس على حجم تلك الشريحة ارتباطًا بمستوى تقدم تلك التفاهمات المنبثقة عن مسيرات العودة والتي بدأت في عام 2018.
وقد كان هذا الملف وتزامنه مع إحجام الحركة عن المشاركة في أي جولات تصعيد عسكرية مع الاحتلال منذ انتهاء معركة سيف القدس في 2021م واحدًا من أكثر العلامات تأثيرًا على الوعي الجمعي لمفكري الكيان ومخططيه الاستراتيجيين في قراءة سلوك الحركة وتوجهاتها، ولا سيما بأن المقاومة نجحت إلى حد بعيد في تحقيق أقصى درجة ممكنة من "الخنق الاستخباري" للعدوّ ومنع أدواته البشرية أو التكنولوجية من التسلل إلى عصب القرار القيادي فيها، في ظل تنفيذها لمشاريع أمنية بين الحين والآخر لتجنيد العملاء المزدوجين لبث المعلومات وتمريرها بما يخدم الهدف العام لإطلاق الطوفان، ما أثمر في إنتاج أكبر عملية استخبارية عسكرية سياسية ناجحة ضد دولة الكيان منذ نشأتها.
رد الكيان للرد على العملية بأكبر حرب إبادة في العصر الحديث تُشنّ منذ عام كامل وتغذيها حرقة الانكسار والانخداع الذي أصاب هذه الدولة وهزّ قدميها واستشعرت أوان سقوطها في بضع ساعات قبل أن تستجدي الولايات المتحدة والعالم لحمايتها والوقوف إلى جانبها في الخطر الذي تهدد وجدودها والذي سيبقى تأثيره في وجه المنطقة لعقود قادمة.
وفي استكمال لمسار الرداءة التي تلبست جيش الاحتلال وقيادته احتفاؤه بوصول دباباته إلى ساحة الكتيبة مطلع الشهر الثاني من الحرب، ورسمها لنجمة داود في حركة سخيفة ظن من نفذها وروّج إليها أنه سيمحو بها عارًّا ساء وجهه وبقي شاهدًا على أكبر عملية استهزاء بمنظومات الاستخبارات عرفتها نظم الحرب الحديثة.