في كتابة "نحو فهم أعمق وأدق للكيان الصهيوني" يتناول الراحل "جورج حبش" نظرية غاية في الأهمية تتحدث عن الاستراتيجية الشاملة لبناء الكيان الصهيوني كفكرة استعمارية على أرض فلسطين، وتعتمد نظرية حبش على مفهوم السلسة القوية وليس الحلقة المركزية، وللتوضيح يقول حبش في هذا الاتجاه: " قد تم بناء القاعدة الاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية، جنبًا إلى جنب بناء القوة العسكرية المتطورة للاحتلال، والتي اعتمدت على تقوية السلسة لا الحلقة المركزية"، ويقصد جورج حبش هنا أن نظرية بناء الكيان كأداة استعمارية تم بنائها عبر تمتين كافة حلقات السلسة وليس الاكتفاء بالحلقة المركزية كحلقة قوية، وبذلك يكون التعبير الشامل لهذه النظرية هو القوة بمعناها الاقتصادي، والبشري، والاجتماعي، والتكنولوجي، والعسكري، وعليه يكون المركز الامبريالي "الدولة الأم"، قد قام بتحويل القوة الاستعمارية إلى قوة ذاتية.
انطلاقًا من مفهوم حبش، والذي قام على قاعدين أساسيتين، وهم :" الأولى تقول أن الصراع ليس مع ملايين من اليهود، بل هو صراع مع فكرة الحركة الصهيونية العالمية التي تدعم الكيان بشريًا وماديًا، وروحيًا، أما عن الثانية تتحدث عن علاقة الكيان بالمركز الامبريالي، والذي لا يمكن بدونه فهم صيرورة تطور قوانين هذا الكيان"، يأخذنا هذا المفهوم إلى استيعاب اللبنة الأولى لفكرة بناء الكيان، إذ هذا الكيان يُعتبر بمثابة فكرة استعمارية استيطانية، وليس فكرة استعمارية استغلالية، ومن أجل التوضيح يُعتبر المفهوم الأخير للاستعمار هو الحفاظ على السكان الأصليين للاستفادة منهم، أما المفهوم الأول يقوم على أزاله السكان الأصليين، وتحديدًا الازالة الجسدية، وهذا هو الفرق الجوهري.
في سياق الازالة الجسدية، يُهدف الاستعمار الاستيطاني بشكلٍ عام للسيطرة على الأرض وليس السكان، ومن هذا الطرح يُمكن فهم ما يجري في قطاع غزة من حرب إبادة ومجازر، وهنا نذهب قبل الدخول في تشريح هذا الطرح إلى عالم الاجتماع الأمريكي " روبرت ميرتون"، وتحديدًا نظريته التي تناولت التحليل الوظيفي للظاهرة، والتي تتحدث عن وجود هدفين للظاهرة بأنواعها، أحدهما واضح، والآخر كامن، أو مستتر، وفي عملية إسقاط سريعة عما يجري من ظاهرة حرب إبادة في غزة، يمكن القول أن الهدف الواضح لهذه الحرب هو الردع، وفي سياق الردع يُبرر الاحتلال جرائمه بأن هناك قادة للمقاومة بفي صفوف المدنيين، أما عن الهدف الكامن هو تطبيق مبدأ الإزاحة عن الأرض، وتغيير في التركيبة السكانية داخل قطاع غزة، إذ الاحتلال يبحث عن إزالة سكان للقطاع عبر تدمير أنماط الحياة هناك، ولذلك يقوم بقصف المدارس، والمستشفيات...، وأكثر إلغاء السكان الأصليين، واستبدالهم بالمستعمرين، وفي هذا السياق يقول "هرتزل" في كتابة "الدولة اليهودية" :" إذا أراد المرء أن يستبدل بناء جديدًا بآخر قديم، فيتو جب عليه أن يهدم قبل أن يبني".
ما بين نظرية السلسلة، والاستعمار الاستيطاني، وجهت عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023 ضربة قاصمة للعمود الفقري لبناء الكيان الصهيوني، والذي يُعتبر بمفاهيم الاستعمار الاستيطاني "بنية وليس حدثًا"، إذ استطاعت "طوفان الأقصى"، من ضرب كافة حلقات السلسة القوية للكيان الصهيوني، حيثُ تلقى الاحتلال ضربة في نظريته الأمنية العسكرية التي تقوم على مفهوم الردع، وأيضًا في بنية المجتمع والتركيبة الاجتماعية، وتحديدًا في مفهوم "الكيبوتس"، إذ استطاعت المقاومة من ضرب البنية الأساسية لهذا المفهوم الذي يقوم على ثلاثة ركائز أساسية وهم: " الوجود، والاستقرار والذي يعني الأمن، والتنمية والتي تعني الاقتصاد، وخصوصًا الاقتصاد الزراعي والصناعي"، ومن هذا المنطلق يُمكن بشكلٍ مُبسط فهم لماذا قال نتنياهو في أكثر من تصريح لهُ ما بعد السابع من أكتوبر أن الحرب، هي حرب وجود.
إذن، تمكنت "طوفان الأقصى" من زعزعة الفكرة الاستعمارية على أرض فلسطين، ولذلك يُفهم لماذا وضع الاحتلال جميع بيضاته في سلة النظام الرأسمالي ما بعد هذه الحرب، وتحديدًا "الدولة الأم"، وهي أمريكا، إذ بعد بناء مشروع استيطاني يُعزز وجوده عن طريق اعتباره "قوة قائمة بذاته"، أو كما قال جورج حبش في هذا السياق: " تحويل الكيان بصفته إداه شريك بدل الاداة الأجير، وبذلك تًصبح إسرائيل كنز استراتيجي بدل إسرائيل العبء"، وأيضًا بعد أن بدء هذا المشروع ببناء حلم "إسرائيل الكبرى" بالمفهوم التوراتي لا الجغرافي، استطاعت المقاومة الفلسطينية من ضرب أركان المشروع، وإدخاله في نفق مُظلم على كافة الأصعدة.
أخيرًا وليس آخرًا، بالعودة إلى حبش ونظريته، إذ بالإضافة إلى فكرة الحركة الصهيونية، وربطها بالمركز، يوجد هناك قاعدة ثالثة يُمكن فهمها الآن في سياق ما يجري، إذ يؤكد حبش أن أهمية الحلقتين السابقتين، لا يمكن أن نُلغي أهمية الرجعية العربية في سياق التطور للمشروع الاستعماري، حيثُ ساعدت هذه الحلقة في احتجاز تطور المنطقة العربية تحديدًا بالنسبة للمشروع الرأسمالي، بالإضافة إلى اعتبارها وسيلة يمكن الاعتماد عليها في الحفاظ على المشروع الاستيطاني على سدة الحكم في المنطقة، وفي هذا السياق يقول "ديفيد بن غورين": " لا نُريد للإسرائيليين أن يصبحوا عربًا، بل من واجبنا أن نُحارب روح الشرق التي تُفسد الافراد والمجتمعات، وأن نُحافظ على أصالة القيم اليهودية كما تبلورت في الشتات.
بطبيعة الحال هذا ما قَبلت به الدول العربية، وسقطت بإرادتها في مربع التطبيع، وتم تكبيلها اليوم من القيام بواجبها اتجاه القضية الفلسطينية، حيثُ كان "بن غورين"، يؤمن على الدوام بأهمية اضعاف المحيط العربي، وتحديدًا دول الطوق الملاصقة لحدود فلسطين التاريخية، وبقاء "إسرائيل" قوية، بالإضافة إلى ممارسة الخوف على شعوب المنطقة، وفي ذات السياق يقول "بن غورين" : " عظمة إسرائيل ليست في قنبلتها الذرية، ولا ترسانتها العسكرية ولكن عظمة إسرائيل تكمن في انهيار ثلاثة دول: مصر، والعراق، وسوريا"، وفي سياق متصل يُفهم الآن لماذا كان يعتبر جورج حبش الصراع هو صراع وجود.