بعد عشرة أيام على ضربة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كان الرئيس الأمريكي بايدن في "تل أبيب"، يمثّل بنفسه القوّة الجبّارة التي أمسكت بـ"إسرائيل"، كي تعيد لها توازنها، وكي لا ينفلت جماحها، ولم يكن هذا الإمساك ترشيدا أخلاقيّا وسياسيّا، بل كان إطلاقا لآلة القتل الإسرائيلي الجبارة وتحريرا لأيديولوجيا الإبادة التي تعتنقها "إسرائيل"، بيد أنّ الترشيد كان في العمل الأمريكي الدؤوب على تحسين الشروط لصالح الحرب الإسرائيلية، وإنضاج الظروف اللازمة لانتقالات أخرى في الحرب، وقيادة العلاقات العامة الخادمة لتلك الحرب، والتدخل لتصحيح الأخطاء الإسرائيلية، وتغطية الحرب العميقة بالثقل الدبلوماسي. فالجذرية التي اتسمت بها عملية السابع من أكتوبر، لم يكن لتُقابل إلا بجذرية تعود لمشاريع هندسة المنطقة التي وُضعت من عقود ولم تُستكمل أو أعيقت.
في زيارته الأولى بعد السابع من أكتوبر، حمل بلينكن، وزير خارجية بايدن، إلى الحكومات العربية؛ الرعب، وطالبهم بالقبول بتهجير سكان قطاع غزّة واستقبالهم لاجئين في بلادهم. وإذن ومن اللحظة الأولى كانت أمريكا أكثر عمقا في إرادة التغيير من نتنياهو نفسه، وكانت أكثر استعمارية وصهيونية في إحساسها اللحوح بضرورة استكمال ما لم ينجزه بن غوريون. وتبيّن أن مقترح التهجير هو الخيار الأوّل الذي فضّلته وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، وهذا التهجير لن يكون ممكنا إلا بحرب تتقصد الإبادة والتدمير الممنهج، فكانت حرب الإبادة بالضرورة حربا أمريكية، وكانت المؤشّرات على الانخراط الأمريكي العسكري المباشر في الحرب أكثر من أن تُحصى، علاوة على تكريس المؤسسة الاستخباراتية والتقنيات الأمريكية لصالح الحرب الإسرائيلية.
مثلا، أعلن كيربي عن اغتيال نائب قائد كتائب القسام مروان عيسى قبل أن تعلن ذلك "إسرائيل"، وتبيّن أنّ تحرير أربعة أسرى إسرائيليين في النصيرات أُنجز بتعاون أمريكي إسرائيلي استخباراتي ولوجستي أفضى إلى استشهاد وإصابة أكثر من ألف فلسطيني!
جرى التعامل مع غزّة وفق استراتيجية التجزئة الموضوعية والتجزئة الشاملة، وذلك بالدخول المتدرّج إلى غزّة، منطقة منطقة، وصولا إلى احتلالها الكامل، مع جهد سياسي ودعائي يهدف إلى شراء الوقت، وتضليل العالم، وخداع المقاومين أنفسهم. إذ تبيّن أنّ كلّ مقترحات وقف إطلاق النار، كانت تقصد هدنة مؤقّتة تعيد الأسرى الإسرائيليين فحسب، وبما يضمن تسكين الشارع الإسرائيلي، والتلاعب بالقوى الدولية والإقليمية، لتُستَكمل الحرب تاليا، لكن في الوقت نفسه، كان الجهد السياسي هذا مرتبطا بالتجزئة التي تتقصّد الإقليم، لمنع جبهات الإسناد من انخراط أعمق في المواجهة، بإشاعة التفاؤل المستمرّ بإمكان إنجاز صفقة، إذ لن يعمد أحد إلى توسيع جهده القتالي بما قد يجرّ عليه حربا أكبر وعلى بلاده دمارا، أوسع ما دام احتمال وقف إطلاق النار ممكنا بصفقة!
عزل جبهات الإسناد بتخفيف وتيرة قتالها، استند إلى استراتيجيات تضليل منها التبشير المستمرّ بصفقة تبادل أسرى، هذا التبشير كان يصير أكثر كثافة في أوقات معينة، تماما كما بعد اغتيال فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية في بيروت، وإسماعيل هنية في طهران، حينما زعمت الولايات المتحدة أن صفقة بين حماس و"إسرائيل" على وشك الإنجاز، وهي الخديعة التي اعترف بها الإيرانيون أخيرا على لسان رئيسهم بزشكيان الذي قال: "القادة الأمريكيون والأوروبيون كذبوا عندما وعدوا بوقف إطلاق النار ما لم تردّ طهران على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية". ومن المحتمل جدّا أنّ مقترحات المبعوث الأمريكي إلى لبنان آموس هوكشتيان، لوقف إطلاق النار، وما أعلنه الفرنسيون عن مقترح فرنسي/ أمريكي لهذا الغرض، كان عملية تضليل لتوفير الظروف المناسبة لاغتيال الأمين لحزب الله حسن نصر الله، بعد منحه شيئا من الاطمئنان.
الأهمّ من ذلك، في استراتيجية الدفع المتدرّج نحو حرب كبيرة، وبما يتضمّن مخادعة جبهات الإسناد لتخفيض كفاءتها طوال المرحلة الأولى من الحرب (الحرب على غزّة)، هو التخويف المستمرّ من الحرب الشاملة، والإيحاء بأنّ الولايات المتحدة لا تريد هذه الحرب الشاملة. هذا التخويف بدا أنّه مؤثّر على جبهات الإسناد بداية الحرب، وهذا الإيحاء بدا فاعلا بحيث اعتقد مجمل الفاعلين، أنّ الولايات المتحدة بالفعل لن تسمح بانتقال الحرب إلى لبنان ما دام حزب الله ملتزما بقواعد اشتباك لا تتجاوز الأهداف العسكرية المادية في مساحة إسرائيلية محدودة، وهذا بنحو ما يفسّر استمرار الحزب على هذه القواعد حتى بعد اغتيال فؤاد شكر.
كسبت "إسرائيل" بفضل إدارة أمريكا للحرب الوقت كلّه، فأخذت تستعد للانتقال للجبهة اللبنانية منذ شهور، وحينما صارت الخطط جاهزة، وجّهت "إسرائيل" ضربات تهدف إلى شلّ الحزب، من تفجير البيجرات واللاسلكي إلى اغتيال إبراهيم عقيل إلى اغتيال الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله، في خطوة تمهيدية لتأسيس واقع سياسي جديد يجري تعزيزه بعملية برّية متدرجة داخل لبنان.
وإذن، كانت أمريكا تريد حربا إقليمية يمكن السيطرة عليها، تنتقل فيها من مكان إلى آخر، وتعمد فيها إلى تعمية الخصم، وتقييد فاعليته، بإنتاج سياسات التضليل وكسب الوقت. ويمكن ملاحظة أنّ الولايات المتحدة غطّت الحرب الإسرائيلية على لبنان بالأساليب نفسها التي غطّت بها الحرب على غزّة، فالخطوط الحمراء الأمريكية بخصوص رفح انمحت تماما، وهكذا انمحت الاعتراضات الأمريكية على الدخول البرّي إلى لبنان.
لا يعني ذلك أنّ الحرب بدأت وأمريكا قد وضعت في رأسها سلفا أنّها ستصل بها إلى لبنان وربما تاليا إلى البرنامج النووي الإيراني أو تغيير النظام في إيران، ولكنها وضعت في رأسها الفحص المتدرج للاحتمالات السياسية والعسكرية، بإنجاز الأهداف خطوة خطوة، وذلك بالاستناد إلى المشاريع الموضوعة أصلا منذ عقود لتغيير الشرق الأوسط، والتي ظلّت تتجدد مرورا بخطة ترامب، وصولا لمشروع التطبيع الذي جاءت به إدارة بايدن، وبالعودة إلى مشروع المحافظين الجدد والذي كان من معالمه حرب تموز/ يوليو 2006 مع حزب الله، بعد حرب العراق 2003، إذ أفشل صمود الحزب في تموز 2006 محاولة الانتقال بالمخطط من البوابة اللبنانية.
كان دائما ثمّة خلاف بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" حول كيفية التعامل مع الخطر الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني على التوازن في المنطقة ومن ثمّ التفوق الإسرائيلي، ولكن الخلاف لم يكن أبدا على كونه خطرا ولا على ضرورة إزالته، ولكن فقط على الكيفية؛ هل يكون بالحرب أو بالضربات التي من شأنها أن تستدعي الحرب، أم بالحصار وتحريض الشعب على نخبته الحاكمة ومحاولة العبث بالنخبة الحاكمة واللعب على تناقضاتها انتظارا لوفاة المرشد. ومن الممكن،والحالة هذه، أن تكون وفاة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، قد كانت عملية اغتيال في سياق التأثير على توازنات النظام الراهنة، وعلى مستقبله. وترجيح نظرية الاغتيال هذه بات له رواج الآن في أوساط المراقبين أكثر من قبل.
هل من الممكن أن تصير الإدارة الأمريكية الآن إلى قناعة بإمكان إنجاز الأهداف ضدّ إيران بتطوير مسار الحرب؟! هذا يبقى احتمالا قائما لا ينبغي إغفاله، وقد سبق لي التحذير من استبعاد نقل الحرب الموسعة إلى لبنان في مقالة كتبتها في 24 حزيران/ يونيو بعنوان "عن خيارات الاحتلال الصعبة.. هل من مواجهة أوسع مع حزب الله؟"، تحاول أن تقرأ خيارات الاحتلال التي من الممكن أن تغري بها إنجازاتُ الحرب، أو الوضع الاستراتيجي القائم الذي لا يمكن أن يقبل الاحتلال باستمراره. وبالمنطق نفسه، فإنّ المنطق المتدرج للحرب من الممكن أن يقف عند حدود معيّنة، أدناها توفير الموقع السياسي الأفضل للاحتلال ليتمكن من فرض شروطه من موقع الأقوى، وأعلاها تدحرج الحرب بحسب المعطيات الميدانية والسياسية وصولا إلى ما يسميه "تغيير الترتيب في الشرق الأوسط"، وفي المنتصف بينها فرض منطقة عازلة في جنوبيّ لبنان، واستمرار السعي لتفكيك حزب الله.
هذا يعني أنّ الحرب شاملة، ولكن بالتدريج، والخطوات التالية في هذا المسعى المتدرج ليست محسومة سلفا، وإن كانت الخطط كلها موضوعة سلفا، ومن ثمّ فالقرار بالتأكيد يهتدي بتلك الخطط، ولكنه يتحدد وفق المعطيات السياسية والميدانية، بحيث يتبيّن هل ستفضي هذه الخطوة في الحرب إلى خطوة أخرى أم لا، وإن كان ثمّة خطوة أخرى فما هي؟