شهدت الضفة الغربية منذ احتلالها عام 1967 نهضتان سابقتان للمقاومة قابلتهما حملتان تاريخيتان لإجهاضها، أما النهضة الأولى فكانت بانتفاضة الحجارة المباركة في 1987 وأخذت شكل الفعل الشعبي الشامل الذي تشكلت قيادات جماهيرية وطنية وإسلامية لاستدامته وتنظيم وتيرته، وكانت آفاق المقاومة فيها متاحة لمن أراد بمجرد خروجه من باب منزله: فرفع علم فلسطين مقاومة، وإحراق العلم الصهيوني مقاومة، والشعار على الجدار مقاومة، ورمي الحجر مقاومة، والإضراب التجاري مقاومة.
في مقابل هذا الفعل المقاوم مفتوح الآفاق جاءت محاولة الإجهاض الأولى بإعادة رسم الجغرافيا السياسية للضفة الغربية عبر اتفاق أوسلو، بوضع معظم الكتلة السكانية الفلسطينية تحت إدارة فلسطينية، وإبقاء معظم الجغرافيا الزراعية تحت السيطرة الصهيونية الشاملة وتحويلها إلى مساحة خصبة للاستيطان والهيمنة؛ في المحصلة بات رمي الحجر لا يصيب جندياً إلا في مساحات اشتباكٍ محدودة، وبات رفع علم فلسطين عملاً عادياً فكل مقرات السلطة ترفعه، وبات الإضراب تعطيلاً للاقتصاد الفلسطيني مع كونه بأسره ملحقاً بدائرة الاقتصاد الصهيوني، فأُغلقت بذلك آفاق الفعل الشعبي مع تكليف السلطة الفلسطينية بمهمة أمنية لتتولى أمر المجموعات التي "تطول أيديها" إلى الأهداف الصهيونية التي باتت خارج التناول الشعبي القريب.
لم يلبث المجتمع الفلسطيني أن تأقلم مع الوضع الجديد، ومضى إلى نسخة جديدة من نهضة المقاومة في انتفاضة الأقصى عام 2000، فوض بموجبها إمكاناته البشرية والمادية للتنظيم الفلسطيني ليتولى التنظيم ترجمة هذه الموارد إلى اختراقٍ مقاومٍ للعمق الصهيوني بالعمليات الاستشهادية وعمليات القنص وإطلاق النار، من خلال خلايا سرية كانت تنشأ محلياً وترتبط بالتنظيم قبل أن يلاحقها الاحتلال ويصفيها بالاغتيال أو الاعتقال، وأسهم موقف السلطة بقيادة ياسر عرفات في توفير شرط الحد الأدنى لوجود التنظيمات بشتى أشكالها فقد كان يعول على العودة إلى العمل المسلح كأحد خيارات تصحيح المسار البائس الذي انتهت إليه مفاوضات أوسلو.
رد الاحتلال بمعونة الولايات المتحدة بحملة إجهاضٍ جديدة عنوانها إنهاء التنظيم الفلسطيني ومنع إمكانية عودته، وارتكزت محاولة الإجهاض إلى أربع أساليب أساسية: الأول تكريس الحواجز وتقطيع الأوصال مع رقابة متكاملة على الطرق الواصلة بين مدن الضفة الغربية بشبكة من الكاميرات وشق طرق موازية مخصصة للمستوطنين حيثما كان ذلك ممكناً، والثاني الاستثمار في نسخة جديدة من الأجهزة الأمنية، نسخة الجنرال الأمريكي كيث دايتون التي تعتبر المقاومة عدوها المركزي الأوحد ولا تقبل تسلل المقاومة إلى صفوفها أو ممارستها كأجهزة كما حصل مع سابقتها، والثالث التوسع في التوظيف في أجهزة السلطة وتوسيع دائرة المصالح المجتمعية المرتبطة بها مع التوسع في القروض والإنفاق الاستهلاكي، والرابع اتخاذ "الانقسام" بوابة لضرب أي تنظيم فلسطيني مقاوم، مع تحويل بنية فتح بإقصاء العناصر التاريخية المقاومة منها واختصار فتح بكونها "حزب السلطة"، وبذلك أتم الصهاينة إغلاق الأبواب أمام أي تنظيم فلسطيني مقاوم.
في مواجهة ما أنتجته هذه الحملة من واقعٍ معقد، نشهد اليوم تأقلماً فلسطينياً جديداً يؤسس للنهضة التاريخية الثالثة للمقاومة: بتأسيس الكتائب المحلية المقاتلة العابرة للانتماء الأيديولوجي والفصائلي، والمرتكزة إلى جغرافيا مكتظة تتمتع بالسماكة السكانية الكافية التي تجعل اقتحامها مستعصياً على الجيش الصهيوني بل ومستعصياً على أجهزة دايتون أيضاً، ومن هنا عاد المخيم إلى الواجهة لأنه الجغرافيا التي تحمل هذه الإمكانات، فضلاً عما يحمله من إرثٍ للشهادة والمقاومة، وانضمت إليها البلدة القديمة في نابلس؛ ولم يكن غريباً إذن أن يكون مخيم جنين أول هذه الأنوية المحلية المقاتلة نشأة في 6-9-2021، أي قبل ثلاث سنوات فقط من هذه الهجمة الصهيونية الشرسة على الضفة الغربية.
كما هو متوقع بالطبع بدأت هجمة الإجهاض التاريخية الثالثة بالاجتياحات المتتالية لبؤر المقاومة هذه، وبمحاولة تصفية قادة الكتائب ومقاتليها واستنزاف هذه الكتائب الناشئة قبل أن تراكم القوة وتنتشر. رغم أن الاحتلال شن حملة الإجهاض هذه منذ الأيام الأولى، فقبل 7 أكتوبر كان قد شن عملية واسعة أسماها "بيت وحديقة" في شهر 7-2023 على مخيم جنين، فإن هذه الكتائب المحلية سبقته حتى الآن في التحديين: في تحدي البقاء والتمدد رغم ضريبة الدم واليوم تخوض كتيبة جنين المعارك في الذكرى الثالثة لتأسيسها، وفي تحدي التمدد والانتشار رغم الملاحقة فوصلت إلى جنين المدينة وعدد من قراها وإلى طولكرم ونابلس وطوباس والفارعة وإلى مخيم عقبة جبر قرب أريحا، بل أخذت تمتد إلى قلقيلية المحاصرة وإلى الخليل بكتيبة بيت أمر، فتحولت الكتيبة عبر تجربة السنوات الثلاث إلى أكثر من عشر كتائب.
هذا التجذر والانتشار سببه أن هذه الكتائب المحلية ابنة مسار تاريخي لنهضة المقاومة –كما كانت النهضتان السابقتان- وليست ابنة المحاولة التنظيمية المحلية فحسب، فاستعادة وعي المقاومة في الضفة الغربية من بعد انتفاضة الأقصى مرّ بتأسيس الحراك الشبابي في القدس في 2013 وتفعيل أدوات المواجهة الشعبية في هبة الفتى الشهيد محمد أبو خضير في رمضان 2014 وبانتفاضة السكاكين 2015 وبهبة باب الأسباط 2017 وبهبة باب الرحمة 2019 وبمعركة سيف القدس 2021 التي كانت محطة القطاف الأولى لهذه التجربة ثم بمعركة الاعتكاف في 2023 وأخيراً بطوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 والذي كان بحق محطة القطاف الثانية في هذه التجربة التي كانت تحاول اجتراح المستحيل إذ تواجه آخر ما توصلت له قوى الاستعمار مجتمعة من رقابة وتضييق أمني ومن هندسة اجتماعية.
غير أن هذا المسار الواثق لا يصنع الحتميات، فنجاح هذه الأنوية الجريئة المقاتلة في الصمود والتوسع رهنٌ بمقدار ما يوضع فيها من إرادة وما يقدم لها مجتمعها من إمكانات مادية وبشرية، وبما يتغير على عمقها الشعبي ليتيح آفاق احتضانها بعد عقدين من هندسة مصالح المجتمع بالاتجاه العكسي، وهذا يتطلب أن تخرج النخبة من موقع المتفرج المراهن على السباق، ومن حالة ترقب ما إذا كانت هذه التجربة ستنجح أم لا؛ فما دامت هذه النهضة التي أنتجها المسار التاريخي والأمر الواقع على الأرض فليس هناك مجال للاشتراط وانتظار نهضة تلبي طموح النخبة، حتى وإن كان بعض هذا الطموح مشروعاً ومدفوعاً بمحاولة تجويد أداء هذه الكتائب حرصاً على نجاحها، بل الواجب اليوم النزول إلى الميدان واستغلال هذه النافذة التاريخية بكل طاقة ممكنة، فيكفي أنها ما زالت تُنتظر منذ 20 عاماً؛ فهل نملك رفاه أن نفوتها؟!