أدلى وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت في 12 آب/ أغسطس بثلاث أفكار رئيسة، في حدود ما تسرب عن اجتماع للجنة الخارجية والأمن، في مقرّ وزارة الحرب الإسرائيلية: الفكرة الأولى هي السخرية من مفهوم "النصر المطلق" الذي يدعو إليه بنيامين نتنياهو، والثانية تحميل "إسرائيل" مسؤولية عن تأخر إنجاز صفقة تبادل أسرى مع حركة حماس، والثالثة نفيه خروج تسريبات من جهات برئاسته للإعلام.
هذه الأفكار الثلاث بالضرورة تتجه لبنيامين نتنياهو، فقد استخدم نتنياهو تقنية التسريبات غير معلومة المصدر للتشويش على الموقف العام، سواء بخصوص تحمل المسؤوليات عن عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أو بخصوص مجريات الحرب ومعلومات المفاوضات مع حركة حماس حول الصفقة. ونتنياهو هو صاحب شعار النصر المطلق، وهو صاحب القرار بوصفه رأس الكيان الإسرائيلي، ومن ثمّ فهو الإسرائيلي الوحيد الذي يتحمل المسؤولية عن تعطل تلك الصفقة.
من جهته، ردّ مكتب بنيامين نتنياهو بخطاب تخويني واضح، اتهم فيه غالانت بتبني الرواية المعادية لـ"إسرائيل" بدلا من العمل على ملاحقة يحيى السنوار، زعيم حماس الجديد. هذا الخطاب التخويني صار مطّردا في الآونة الأخيرة، على لسان نتنياهو، أو على لسان بعض أفراد عائلته مثل ابنه يائير، أو على لسان بعض حلفائه مثل بتسلئيل سموتريتش، فقد سبق لبعضهم ووصف مظاهرات المعارضة الإسرائيلية بأنّها تعبّر عن أقلية متطرفة. يائير نتنياهو وصف المتظاهرين المعارضين لوالده مرّة بأنهم نازيون ومرة بأنّهم إرهابيون، واتهم قادة الجيش والأمن بالخيانة أثناء عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
خطاب التحريض والتخوين ليس جديدا في سياسة اليمين الإسرائيلي، فقد أفضت إلى اغتيال رابين في العام 1995، واتُهم نتنياهو بالمسؤولية السياسية عن ذلك لكونه أحد المحرضين على رابين، وقبل ذلك في العام 1933 اغتيل حاييم أرلوزوروف، أحد قادة الحركة الصهيونية ومن مؤسسي حزب "مباي"، وكان ثمّة إشارات إلى علاقة تربط والد نتنياهو، بن- تسيون نتنياهو، بالمتهمين الذين ينتمون لحركة "بيتار" التي أسسها فلاديمير جابوتنسكي، والتي تعد الجذر الذي انحدر عنه حزب الليكود، كما أنّ جد نتنياهو الحاخام نتان مليكوفسكي، كان متعاطفا مع هؤلاء المتهمين الأربعة، الذين أسقطت عنهم التهمة لاحقا.
خلاف نتنياهو/ غالانت إذن يعود إلى مشروع "الإصلاحات القضائية" السابق على "طوفان الأقصى"، حينما حاول نتنياهو إقالة غالانت، الأمر الذي استفزّ الشارع الإسرائيلي، وعزّز من المظاهرات المناهضة لمشروع نتنياهو، وبالرغم من الأغراض الشخصية لنتنياهو في ذلك المشروع، وسعي كلّ قطب من أقطاب تحالف نتنياهو اليميني للاستفادة من "الإصلاحات القضائية" بما يخدم أهدافه الخاصّة، فإنّ اليمين الإسرائيلي، وتحديدا اليمين الليكودي، سليل "إصلاحية جابوتنسكي"، كان يرى أنّ هذه الفرصة التاريخية لتغيير هويّة الكيان وتوجهاته، بالقضاء على ما تبقى من "إسرائيل مباي"، وهو أمر يقتضي بالضرورة التغيير الجوهري والبنيوي في مؤسستي الجيش والأمن، ليس فقط بإضعاف نفوذهما لصالح الحكومات اليمينية، ولكن أيضا بتصعيد قيادات فيهما تتبنى الرؤى اليمينية بالكامل، وهو ما يذكّر بمقالة سابقة لي عنوانها: "من "إسرائيل" الأولى إلى "إسرائيل" الآخرة.. أولا ما الذي يجري؟"، وهي مقالة قد تُتبع بأخرى لمزيد من البيان والشرح حول المسار الإسرائيلي إلى هذه اللحظة.
من الخطأ إذن النظر إلى خلاف نتنياهو/ غالانت وكأنّه لعبة مؤامراتية مشتركة للتأثير على قرارات أعداء "إسرائيل"، فالأمر أعمق وأعقد، وعودته إلى السطح لها اتصال بذلك العمق، ولها اتصال بما هو جار الآن، إذ يبدو أنّ ثمّة مقايضة داخلية قد جرت بين صناع القرار في "إسرائيل"، وبين نتنياهو والولايات المتحدة، لمنح "إسرائيل" الفرصة لقلب الموقف الاستراتيجي لصالحها حتى يبدو وكأنّها قد استعادت الردع الإقليمي، بمدّ يدها إلى ميناء الحديدة في اليمن، وإلى الضاحية الجنوبية في بيروت باغتيال فؤاد شكر، القائد العسكري الكبير في حزب الله، وإلى العاصمة الإيرانية طهران باغتيال إسماعيل هنية، رئيس حركة حماس، لتوفير صورة انتصار يمكن عدّها مخرجا للموقف الحربي الراهن في غزّة ومبررا لعقد صفقة تبادل أسرى مع حركة حماس، تبرّد الموقف على الأقل لشهرين بحيث يمكن تحسين القدرات الأمريكية في ضبط الحرب والمواجهة الإقليمية، وبما يعطي الإدارة الحالية فرصة للتفرغ للانتخابات القادمة.
يبدو وكأن نتنياهو استفاد من هذا الترتيب لتنفيذ هذه الضربات، في إطار إجماع إسرائيلي، ولكن كعادته، دون الانتقال إلى بقية الخطة. نتنياهو والحالة هذه ليس قلقا على مستقبله السياسي فحسب، ولكنه يعتقد بالفعل أنّ الحرب يجب أن تفرض الاستسلام على حماس أو هزيمتها بوضوح لا يقبل التفسير، وهو ما يتعارض مع اتفاقية تفضي إلى سحب القوات الإسرائيلية من غزّة، هنا نتنياهو يتبنى موقفا إستراتيجيّا حول ضرورات "إسرائيل" التي تتطلب مثل هذا الانتصار مهما كانت الأثمان فادحة، وهو ما شرحناه في أماكن أخرى.
يبقى أمران: الأوّل أن غالانت يقول إنّ انسحاب القوات الإسرائيلية من محور فيلادلفيا ومعبر رفح مدة شهرين لن يضرّ أمن "إسرائيل"، وهذا يعني أن وزير الحرب الإسرائيلي يشارك نتنياهو رؤيته بأنّ الحرب لم تنجز أهدافها، والخلاف بينهما في الترتيب والإدارة والأجندة والأولويات، إذ يرى غالانت أن تخليص الأسرى الإسرائيليين من لدى المقاومة الفلسطينية يستحق اتفاقية مع حماس، يمكن بعدها العودة إلى الحرب، علاوة على حاجة الجيش إلى التقاط الأنفاس وترتيب الأوراق، والتفكير البارد في كيفية تصفية الحساب مع جميع أعداء "إسرائيل" المشاركين في هذه الحرب.
الثاني: أنّ غالانت صريح في تحميل "إسرائيل" المسؤولية عن الفشل في إنجاز الصفقة. هذه الصراحة ليست الأولى، فقد سبقه إليها غانتس وآزينكوت والعديد من التسريبات المنسوبة لمستويات أمنية وعسكرية وتفاوضية. هذه التصريحات تردّ بالتأكيد على دعايات نتنياهو الكاذبة، وعلى حملات العلاقات العامّة التي تقودها الولايات المتحدة لصالح "إسرائيل"، ولكن الأهمّ في كونها تردّ على الكثير من الدعايات العربية المناوئة لحركة حماس وللمقاومة الفلسطينية والتي يبدو أنّها بدورها تزايد على غالانت في صهيونيته!