معلوم بالضرورة أنّ حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية الجارية على الفلسطينيين في قطاع غزّة؛ يجري إسنادها بجهد إعلامي ودعائي يبدأ من الإسرائيلي ويلفّ العالم كلّه عبورًا ببعض الفلسطينيين وبماكينة دعائية عربية، يحمّل المقاومة الفلسطينية لا عن التسبب في هذه الحرب فحسب، ولكنّه وعلاوة على ذلك يحمّلها المسؤولية عن استمرارها، وفي مضامين مخادعة، تُسقط تمامًا طبائع المقاومة في صراعات من هذا النوع، والخصوصية التي تتسم بها القضية الفلسطينية.
هذا الجهد الدعائي، العربي منه على وجه الخصوص، الذي يهدف بالنحو المباشر إلى نزع الشرعية الأخلاقية والسياسية عن المقاومة الفلسطينية، وفي الحدّ الأدنى إلى إثارة التشويش حول دوافعها وممارستها، وبنحو مستبطن إلى تبرئة الإسرائيلي، لا يستهدف حماس بوصفها حركة "إسلام سياسي"، أو ذات علاقات إقليمية غير مُرضية لبعض أطراف النظام الإقليمي العربي (كالعلاقة مع إيران)، أو لاتخاذها خطًّا نضاليًّا يصادم اتجاه التطبيع التحالفي المسمّى تطبيعًا إبراهيميًّا، ولكنّه يستهدف القضية الفلسطينية من حيث هي، فهذا الاتجاه مؤسّس على الاعتقاد بإمكان تجاوز القضية الفلسطينية وإلى الأبد، وهو من الوضوح بمكان، إذ تكفي سياسات التطبيع الجديد وخطاباته لفهم الحملة الدعائية التي تستهدف حماس من أطرافه وفي وسائطه الإعلامية.
لكن؛ وللزيادة في التأكيد، يمكن الاستدلال بالحملة الممنهجة التي استهدفت القضية الفلسطينية، وجميع الفاعلين فيها بلا استثناء، وسعت إلى تنميط الفلسطيني وشيطنته وإثارة الكراهية ضدّه، التي سبقت ولسنوات عملية السابع من تشرين/ أكتوبر، وامتدت في الفضاء الإلكتروني بواسطة ما صار يُسمى "الذباب الإلكتروني"، وعلى ألسنة وبأقلام شخصيات معروفة، وفي قنوات تلفزيونية مشهورة وصحف ورقية تطبع في بلاد عربية، ومواقع إلكترونية تموّل من تلك البلاد نفسها، فلم يكن ما يُوجّه الآن لحماس من الأطراف ذاتها، إلا في السياق ذاته، الذي يرى في القضية الفلسطينية عدوًّا لا بدّ من الخلاص منه.
السؤال، والحالة هذه، إن كان يُقصد من هذه المقدّمة تصنيف كلَّ من ينتقد حماس، أو المقاومة عمومًا، في هذا التوقيت؛ في إطار تلك الحملة الدعائية، وما اتصل بها من دور لبعض الفلسطينيين استثمروا حرب الإبادة لتصفية حسابهم مع حركة حماس؟! والجواب: بالتأكيد لا. تختلف الدوافع، وإن اتفقت النتائج، بالنظر إلى أنّ النقد المسؤول، أو المخلص في دوافعه، سينطمس في غمرة الدعاية السوداء، التي تتقصّد استهداف المقاومة، الآن، لاستهداف القضية الفلسطينية وشعبها، ومن لا يلاحظ التداخل الذي يحصل بين نقده، وبين ذلك الجهد الدعائي الذي يعيد استثماره مباشرة أو بنحو غير مباشر، لديه مشكلة مركّبة، من حيث دورانه حول نفسه ومقولاته المكرورة التي يعجز عن إنتاج غيرها.
في هذا السياق، ثمّة ممارسة للخلط، قد تنجم لدى البعض من سوء الفهم، إذ يخلط بين التحفّظ على نوع من النقد أثناء الحرب قد يُفهم منه تحميل المقاومة وقواها المسؤولية عن حرب الإبادة أو استمرارها بما يخدم الدعاية التي سبق بيان أمرها، وبين نقد الخيارات السياسية والكفاحية لأيّ فاعل فلسطيني، فالنقد بالمعنى الأخير يمارسه الجميع، بما في ذلك منتمون للأحزاب الفلسطينية، وبخلاف ما يتوهّمه بعض الكتاب والمثقفين ممن تحجب عوامل متعدّدة قدرتهم على الولوج إلى ملاحظة الممارسة الحزبية النقدية لأنصار التيارات الفلسطينية، فلا أحد يعدّ نقد الخيارات السياسية والكفاحية لفاعل فلسطيني اتهامًا للضحية، فتصوير الاعتراض على اتجاهات من النقد بهذا النحو؛ سوء فهم أو مغالطة متعمّدة، لأن النقاش يتجه للمضامين والتوقيت والسياقات والأغراض، لا لمبدأ نقد الخيارات لأيّ فاعل!
في إطار هذا الخلط نفسه، يسوّغ بعض المثقفين نقدهم، محلّ التحفظ، بأنه لا يمكن إرجاء محاسبة قوى المقاومة إلى ما بعد الحرب، لأنّ الفلسطينيين، بحسب ما يراه ذلك البعض، لم يحاسبوا أحزابهم وقياداتهم طوال تاريخهم.
الخلط هنا، في التناقض الضمني، في خطاب مثل هذا المثقف، فإذا كان النقد عملية محاسبة، فما معنى القول إنّ الشعب لم يسبق له وأن حاسب أحزابه وقياداته؟! فها هو هذا المثقف لا يكفّ عن نقد القوى الفلسطينية وخياراتها الكفاحية قبل الحرب، وسيفعل ذلك بعد الحرب، فإن كانت هذه محاسبة فقد مارسها، وربما ليس لبعضهم ممارسة سواها، فإن لم تكن محاسبة، فماذا تكون الآن أثناء الحرب؟! مع ضرورة السؤال الأخلاقي حول معنى محاسبة الطرف المعتدى عليه أثناء الحرب.
لكن هل فعلاً لم يحاسب الفلسطينيون قياداتهم وأحزابهم؟! فما هي دلالة ضمور قوى وأحزاب وغياب قيادات وظهور غيرها؟! وما دلالة ظهور خطابات متجدّدة بما فيها قوى معارضة لبعضها؟! أليس هذا كله ضربًا من التجدّد والبحث عن خيارات جديدة ونقد خيارات سابقة؟! وهل يلغي كون هذا متجلّيًا في ممارسات حزبية وأنماط تنظيمية أنّه منبثق عن الشعب؟! هل الخطابات والممارسات والتجلّيات التنظيمية الفلسطينية متطابقة للقول إنّه لا وجود لحالة نقدية في الساحة الفلسطينية؟! ما معنى التمايز والاختلاف إن لم يكن تعبيرًا نقديًّا عمليًّا؟!
كأنّ المثقف الذي من هذا القبيل يستبطن وعيًا يعزل التنظيمات الفلسطينية عن الشعب، وكأنّها محض متسلّطة على الشعب، وكأن جماهيرها المؤلّفة قد هبطت في غزو فضائي على الشعب الفلسطيني! بالتأكيد القضية جدلية، بمعنى أن الدلالة الشعبية في تحولات الخريطة السياسية الفلسطينية وأنماط الفعل النضالي وخطاباته لا يلغيها فرض الأحزاب والتنظيمات خياراتها على الشعب، ومن جهة أخرى، ليس المثقف المعبّر عن محاسبة الشعب لقياداته وتنظيماته حصرًا، وإنما هو واحد من تلك التعبيرات، التي لا ينبغي لها، في شعور خفيّ من التعالي، توهّم عدم غيرها من التعبيرات.
يجادل البعض في كون الانحياز للمقاومة يستدعي بالضرورة المشاركة في مراجعة خياراتها وأدواتها وخطاباتها بنقدها، وهذا صحيح، وحتى وإن كان البعض ينتقد لا من قاعدة الانحياز للمقاومة، فهذا حقه كونه فلسطينيًّا، ومن باب أولى من يدفع أثمان المقاومة مباشرة، وهذه حقوق ضرورية لا تُمنح لأحد من أحد، إلا أن تصوّر الاعتراض على نقد في مضامينه أو توقيته؛ نوع من المصادرة أو التحريم، هو المصادرة بعينها، إذ ما معنى أن يرفض مثقف الاعتراض على نقده، ما دام المعترِض يفعل ذلك بقلمه ولسانه؟! أليس هذا نقدًا مقابل نقد؟!
أن تملك المقاومة حساسية عالية تجاه الأثمان التي يمكن أن يدفعها الشعب جرّاء خياراتها هو أمر ضروري ومن واجباتها السياسية والأخلاقية، إلا أنّ مشكلة بعض النقد المؤسّس على هذه القضية، تعليقه الأمر بالمقاومة حصرًا، دون أن يأخذ بالاعتبار طبيعة الاحتلال الإسرائيلي خصوصًا ومنطق العنف الاستعماري عمومًا، بحيث لا يمكن توقّع مستويات العنف التي يمكن أن يلجأ إليها مهما كانت المقاومة أقلّ عنفًا، وأدنى مستوى، والأمثلة على ذلك من التجربة الفلسطينية نفسها لا تُحصى، وعليه فالمشكلة في بعض النقد في تحوّله، في المفهوم، إلى مطالبة بانعدام الفاعلية، في تلاق في النتيجة بين هذا النوع من النقد وبين أغراض العنف الاستعماري الذي يهدف إلى "كيّ وعي" الشعب الذي يعاني من الاستعمار وتيئيسه من أيّ فعل، فالنقد نفسه ينبغي أن يتأسّس على حساسية عالية لتحسين الفعل الفلسطيني، لا لدوران الناقد حول نفسه، أو بدعوته لأنماط نضالية مثالية لا تتوفر شروطها الموضوعية، وهي بدورها أصلاً لا تحول دون العنف الاستعماري.
والأمر نفسه في محاولة فهم فعل المقاومة، بحيث ينبغي أخذه في سياق سياسيّ أوسع، لا بالاستناد إلى اتهام مسبق بأنّ المقاومة لا تملك تلك الحساسية، وهو اتهام لدى بعضهم عنصر التقييم الوحيد لفعل المقاومة بالنظر النقدي من خلاله حصرًا أو بالتركيز عليه بما يهمّش غيره من العوامل. فسياق النظر الوسيع يحتاج مناقشة تعود إلى سياسات الاحتلال والفاعلين الفلسطينيين الآخرين وما بلغته القضية الفلسطينية، وبما يتجاوز الوقوف عند حسابات المقاومة ورهاناتها، إذ لا بدّ وأن تخطئ حسابات أيّ فاعل، فكيف لو كان الفاعل الأضعف الذي يواجه الفاعل الأقوى؟ لكن وكأيّ فعل سياسي اجتماعي؛ تتعدّد العوامل الدافعة إليه وبما يفرض أن تتعدّد العوامل في تقييمه ومراجعته.
يبقى أنّ ثمّة مسؤولية أخلاقية في غمرة الحرب الطاحنة، كهذه الجارية الآن، من حيث الغرض من النقد وفاعليته وكيفيات استثماره. إذ ما الإضافة التي يقدّمها للشعب والضحية ذلك المثقف الذي يلحّ بنحو أو بآخر على تحميل مقاومته المسؤولية عن حرب الإبادة التي صارت قائمة، وبما يعزل تلك المقاومة عن الشعب؟!
إنّ عجز هذا المثقف عن قول شيء آخر إنما هو أمر يدينه ولا يبرّئه. كما يدينه الإنكار الصريح أو الضمني للثمن الذي يدفعه المقاوم وجمهوره، كالقول "الشعب الذي يدفع الثمن وليست حماس"، وهي مقولة تستدعي الخجل حين مناقشتها، لأنّ أي ثمن يُدفع هو من الشعب، فحماس وغيرها من الشعب، فكيف تسوق مقولة كهذه النقاش للبحث فيمن يدفع الثمن؟!
الجميع يدفع فاتورة هذه الحرب، وقد عمل الاحتلال منذ الدقيقة الأولى على إبادة جمهور حماس، ابتداء من عائلات المشاركين في عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر إلى عائلات المنتمين لحماس، علاوة على كون هذه الحركة قد وضعت جميع مكاسبها في مقابل عمليتها تلك، هذا الثمن لم يقتصر عليها ولا على جمهورها، بل دفعه كلّ فلسطيني داخل قطاع غزّة، لكن نفي دفعها الثمن، وكأنّها دفّعته للشعب وظلّت هي بعيدًا تنتظر النتيجة وتنظر إلى معاناة الشعب من على شرفة القمر؛ هو أمر معيب، ومساهمة في تحريف الحقيقة والتاريخ.
وإذا كان يمكن لبعض مثقفينا الزعم أن حركتنا الوطنية لم تستفد من تجاربها ومن حلقات قواها وأحزابها ونضالاتها المتتابعة لضعف الروح النقدية في سياقها، فإنّ ذلك البعض نفسه لا يعود إلى آرائه بالنظر والبحث والنقد، وهي مهمة لا شكّ صعبة، لأن الذات أكبر الفاعلين في صاحبها تأثيرًا، وتجاوز حجبها يحتاج مجاهدة مضنية، بما في ذلك للتخلص من الانطباعات والمواقف المسبقة ومحاولة فهم الآخرين كما هم في الواقع، لكن على الأقل ينبغي أن يكون الإحساس الأخلاقي أعلى وتحصيله أسهل في تخيّر ما يقال أثناء الحرب!