خاص - شبكة قدس الإخبارية: على الشرق من مدينة نابلس، يتربع مخيم بلاطة ببيوته المتلاصقة، المبنية من حجر الطوب "البلوك" بلونها الرمادي، وفي أزقته تُحفظ حكايا البلاد المحتلة عام 1948، إذ يعود أصل سكانه إلى قرى يافا والرملة واللد المُهجرة عام النكبة، أما الحكاية الأخرى فهي إرث المقاومة التي سطرها المخيم بدماء أبناءه على امتداد تاريخ النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي.
يبرز اسم المخيم في وسائل الإعلام بعد ارتباطه بمسمى "كتيبة بلاطة" وهي مجموعة مسلحة شكلها شبان المخيم وباتت تتصدى لاقتحامات جيش الاحتلال لمدينة نابلس والمخيم، وتحاول السلطة الفلسطينية حل هذه المجموعة من خلال ترغيب المقاومين بتفريغهم بالأجهزة الأمنية الفلسطينية وحمايتهم من الاغتيالات الإسرائيلية وقد قوبل ذلك بالرفض.
رصاص بلاطة وامتداد سيف القدس
مع اندلاع معركة سيف القدس في أيار/2021 شهدت حواجز الاحتلال المحيطة في مدينة نابلس مواجهات عنيفة على مدار أيام المعركة، وقد تطورت المواجهات لإطلاق نار من قبل المقاومين على الحواجز، وكان شبان مخيم بلاطة وقود هذه المواجهات على حاجز حوارة جنوب المدينةن ومنذ ذلك الحين أضحى عدداً من هؤلاء الشبان مطاردين للاحتلال، واستأنفوا عملياتهم إضافةً لإطلاقهم النار على مليشيات المستوطنين وجنود الاحتلال الذين يقتحمون "قبر يوسف" قرب المخيم.
افتتح قافلة شهداء المخيم الشهيد بكير حشاش والذي اغتاله جيش الاحتلال داخل المخيم في 10 يناير/2022 بعد شهورٍ من المطاردة، وكان لاستشهاد بكير بالغ الأثر على شبان وفتية المخيم الذين باشروا عملهم المقاوم ضد الاحتلال.
طور شباب المخيم وسائلهم القتالية المتواضعة، من أسحلة رشاشة وعبوات ناسفة محلية الصنع "الأكواع" وباتت سلاحهم الأبرز في مواجهة جيش الاحتلال، وأبرز مُصنعين هذه العبوات الشهيد الفتى مهدي حشاش الذي استشهد في اشتباكات مع جيش الاحتلال أثناء التصدي لاقتحام قبر يوسف في 9 نوفمبر 2022، قُبيل ارتقاء مهدي بأربعة أيام تم الإعلان عن تشكيل كتيبة بلاطة بشكلٍ رسمي وخرج مقاتلوها إلى العلن في عرضٍ عسكري جاب أزقة المخيم، مُعلنين إصرارهم على خيار مقاومة الاحتلال.
شهداء ومسيرة كتيبة لم تنتهي
قبل الإعلان عن انطلاق الكتيبة شارك مطارديها بالتصدي لقوات الاحتلال التي اقتحمت مدينة نابلس عدة مرات وارتقى منهم في مدينة نابلس الشهيد مصعب عويس أثناء الاشتباكات، واستمر ذلك بعد التأسيس، ولعل من أبرز شهداء الكتيبة الشهيد أحمد أبو جنيد، غير أن بعد ارتقاء كل شهيد ازدادت قوة الكتيبة وأصبحت على كفاءة أعلى في مواجهة جيش الاحتلال، حتى أدخلت العبوات الناسفة الكبيرة إلى الخدمة واستهدفت بها جيبات وجرافات الاحتلال عند كل اقتحام موقعاً بها الأضرار الجسيمة.
وفضلاً عن العبوات أوقع المقاومون جنود الاحتلال بأكثر من كمين وقد تحققت إصابات مباشرة في صفوف جنود الاحتلال، الأمر الذي دفع جيش الاحتلال للانتقام من قادة الكتيبة وتفجير منازلهم كالشهيد عبد الله أبو شلال أثناء مطاردته، ثم استخدام الطائرات المسيرة في مواجهة المقاومين وقصف مواقع في المخيم كمقر حركة فتح.
امتداد الإرث المقاوم
يُعتبر مخيم بلاطة من أوائل مخيمات الضفة الغربية التي اتخذت من المقاومة نهجاً وأسلوباً منذ احتلال الضفة عام 1967، وهو الشعلة الأولى للمقاومة في الضفة، ظهر ذلك جلياً عندما سجل دخوله لأحداث الانتفاضة الأولى عام 1987 بعد مخيم جباليا في قطاع غزة، إذا اندلعت المواجهات في جباليا فبلغ صداها مخيم بلاطة في نابلس الذي استجاب على الفور بمهاجمة نقاط جيش الاحتلال بالحجارة وحشد المظاهرات الشعبية، وبقيت جذوة الانتفاضة مشتعلةً به خلال سنوات الانتفاضة وحتى بعدها، فكان له النصيب الأكبر من أحداث هبة النفق عام 1996، بعد أن حاصرت الجموع الثائرة جيش الاحتلال في مقام يوسف وقتلت عدداً من الجنود وارتقى شهداء من المخيم.
وما إن انطلقت انتفاضة الأقصى عقب اقتحام "آرائيل شارون" المسجد الأقصى المبارك، حتى انتفض المخيم عن بكرة أبيه وقادت الأذرع العسكرية للفصائل فيه فعاليات وعمليات الانتفاضة، ما جعله عرضةً للاقتحامات المتواصلة والاجتياحات المدمرة حتى عام 2008 بعد اغتيال الشهيد أحمد سناقرة آخر قادة الانتفاضة في المخيم.
ولطالما شكل مخيم بلاطة معقلاً جماهيرياً وثورياً لفصائل العمل الوطني كافة، إذ يشهد تنوعاً حزبياً متناسقاً تنافس أبناءه على البذل ومقارعة الاحتلال على مدار عقود، وخرج ثلةً من الصفوف القيادية لمختلف الفصائل كالشهيد الشيخ جمال منصور أحد أبرز قادة حماس في الضفة الغربية والشهيد محمود الطيطي من قادة حركة فتح ومقاتلينها في الانتفاضتين، إضافة إلى قادة الحركة الأسيرة الذين يعود أصلهم للمخيم كالأسيرين عبد الناصر عيسى، وناصر عويس.
واقع المخيم بعد الطوفان
وتصاعدت وتيرة اجتياحات المخيم بالتزامن مع معركة طوفان الأقصى والإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، واغتال جيش الاحتلال عدداً من القادة البارزين في الكتيبة من خلال قصفهم بالطائرات، كالقصف الشهير الذي استهدف مقر حركة فتح في المخيم وارتقى على أثره 5 شهداء، ورغم هذه المسيرة الطويلة من الشهداء تستمر الكتيبة في نشاطها المقاوم حتى يومنا هذا، مع تطورٍ لافتٍ في أساليب مواجهة جيش الاحتلال وعدم تمرير أي اقتحام لقبر يوسف دون تصدٍ عنيف من مقاومين المخيم.
ليس هذا فحسب بل شن جيش الاحتلال اقتحامات تدميرية في المخيم استهدفت الشارع الرئيسي والبنية التحتية، ودمر عشرات المحلات التجارية لسكان المخيم وهي مصدر رزقهم الوحيد، كما وعانت كتيبة بلاطة من عدة تضيقات شنتها السلطة الفلسطينية على المقاومين كحال مخيمات الضفة الغربية، واليوم تتحول هذه التضيقات إلى محاولاتٍ هدفها إنهاء المقاومة داخل المخيم عبر عروض التفريغ داخل الأجهزة الأمنية وسط رفضٍ قاطع من المقاومين.