كلما أطال نتنياهو الحرب على غزة، كلما صار وضعه أسوأ حالا، وكلما زاد عنادا و"فهلوة" كلما ضعفت فُرصهُ وانكشفت أوارقه، وكلما أراد أن يهرب من حصيلته البائسة نحو أهداف وآمال موهومة، كلما وجد نفسه في حالة أكثر بؤسا؛ وكلما صارت المقاومة أقدر على فرض شروطها، وإجبار نتنياهو على النزول عن الشجرة.
إنه الهروب إلى الأمام، الذي قد يطيل عمره وعمر حكومته السياسي قليلا، ويؤجل دفع أثمانٍ واستحقاقاتٍ قادمة؛ ولكنه هروب سيؤدي إلى خسائر أكبر، وإلى سقوط أكثر دويا وإلى فشل أعظم عارا.
وفَّر مشروع الهدنة الذي وافقت عليه حماس، والذي بذل الجانبان القطري والمصري، بالتنسيق مع الأمريكان، جهودا كبيرة للوصول إليه، مخرجا معقولا لإنهاء الحرب على غزة. ولم تُدخِل حماس وقوى المقاومة سوى تعديلات محدودة تضبط تماسك النصوص وتؤكد الضمانات، وفي الوقت الذي تضمن فيه المشروع وقف الحرب، والانسحاب الكامل لقوات الاحتلال، وعودة النازحين، وإدخال كافة احتياجات القطاع ولوازم الإعمار، وتحقيق صفقة تبادل جادة للأسرى؛ باعتبارها المطالب الأساسية للقوى الفلسطينية؛ فقد تساهلت حماس في الجوانب التكتيكية والشكلية، من حيث مُدد الهدنة ومراحلها، وتدرج الانسحاب الإسرائيلي وآليات إنقاذ صفقة الأسرى.
كانت موافقة حماس "ضربة معلم" حشرت الطرف الإسرائيلي في الزاوية، واعترف مسؤولون أمريكان أن ردّ حماس كان جديا وأن فيه تغييرا طفيفا. وبالرغم من الاهتمام الأمريكي الحثيث ومتابعة أعمدة السياسة الخارجية ومدير المخابرات الأمريكية؛ فقد فضّل نتنياهو أن يتابع عجرفته وعناده، وأن ينكشف ظهرُه، أمام جمهوره وأمام أقرب حلفائه العالميين، وأن يظهر عدم جديته في الدخول في الهدنة وإنهاء الحرب، بل وتعمَّد الإعلان أن اجتياح رفح سيتم باتفاق وبدون اتفاق. وعاد نتنياهو للتأكيد على رفض الاتفاق المعروض، والحديث عن أن جيش الاحتلال في طريقه للقضاء على "الكتائب الأربع" لحماس في رفح، وتكرار أن هدف الدخول إلى رفح هو القضاء على حماس وإعادة الرهائن.
وانضم إلى جانب نتنياهو وزير جيشه الليكودي جالانت الذي قال إن العملية في رفح لن تتوقف حتى القضاء على حماس؛ وفي الوقت نفسه ذكر زعيم الصهيونية الدينية أن التوقف عن مهاجمة رفح سيكون كارثة بالنسبة للكيان الإسرائيلي.
وكأن نتنياهو وحكومته المتطرفة لم يتعلموا، ولا يريدون أن يتعلموا، دروس أكثر من سبعة أشهر من الحرب؛ فكيف سيقضون على حماس من خلال اقتحام رفح، وهم قد مكثوا أشهرا كاملة في شمال غزة ووسطها لم يتركوا حجرا على حجر، ومع ذلك ظلّ عشرات الآلاف من مقاتلي القسام يعملون في تلك المناطق ويكبدون الصهاينة يوميا خسائر فادحة؛ فما الجديد الذي سيحققونه في رفح؟! كما أن سيطرة القسام وقوى المقاومة على شبكة أنفاق واسعة في رفح متصلة بمناطق الوسط والشمال يمكنها من المناورة بشكل يجعلها غير قابلة للحصار، ويجعل نقل أسرى الصهاينة مسألة إجرائية.
نتنياهو المُنكَشِف سياسيا، والذي لم يعد لديه ما يُقنع به جمهوره وحلفاءه بجدوى الحرب وإطالة أمدها؛ لجأ إلى محاولة تخفيف الاعتراضات العالمية ومخاوف أقرب داعميه، في التأكيد على أن الهجوم على رفح سيكون محدودا ومؤقتا، وسيسعى لتجنب المدنيين، وسيهدف إلى تقليص قدرة حماس على تهريب الأسلحة. غير أن السؤال الذي يُرمى في وجهه هو أنه إذا كنت قد فشلت في الحملات الأشد وحشية ودموية وتدميرا وعلى مدى أزمنة أطول، فكيف ستُحقق أهدافك الأصعب بجهد أقل ووقت أقل ووحشية "أقل"؟!! ولذلك، يبدو مشروع اجتياح رفح... مجرد مشروع فاشل برسم التنفيذ؛ كما أن مشروع إدارة معبر رفح عبر شركة أمنية أمريكية سيكون أيضا مجرد مشروع يُرمى في مزبلة التاريخ.
يُدرك نتنياهو وتحالفه المتطرف، بعد أن استنفد كل ما لديه من عدوانية ووحشية، أنه قادم لا محالة إلى الاعتراف بالحقائق كما هي، ولا يستطيع أن يهرب إلى الأبد من الواقع، كما يدرك أنه قادم لا محالة لدفع استحقاقات معركة طوفان الأقصى واستتباعاتها. وهذا يعني الفشل المرُّ في تحقيق أهدافه المعلنة في سحق حماس وفي تركيع الحاضنة الشعبية الفلسطينية، وفي استرجاع الرهائن، وفي احتلال قطاع غزة وفرض إرادته عليه؛ كما يعني النزول على شروط المقاومة في وقف الحرب والانسحاب الكامل من القطاع وعودة النازحين، ودخول احتياجات قطاع غزة، وتنفيذ صفقة أسرى مُشرفة للمقاومة.
سيفعل ذلك نتنياهو راغما، عاجلا أو آجلا، بينما تتآكل شعبيته، وشعبية حزبه، وبينما يتحول كيانه الإسرائيلي إلى كيان منبوذ عالميا، وإلى عبء على الولايات المتحدة وباقي حلفائه، وبينما ترتفع جدران الدم في البيئة العربية والإسلامية بحيث تفقد "التطبيع" كل مبرراته وأدواته؛ وبينما تتسع المظاهرات في الجامعات الأمريكية والأوروبية والعالمية ضده وضدّ عدوانه، وبينما تتجه الأمور نحو إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو من المحكمة الجنائية الدولية، كما يضيق الخناق من محكمة العدل الدولية على كيانه السياسي.
ولذلك، ربما أطال هجوم رفح حياة نتنياهو السياسية أياما أخرى، لكنه سيكون دليل إدانة جديدا على فشله وعلى توحشه، ولا يزيد من نهايته إلا سوءا.