أدت موافقة حركة حماس المفاجئة على العرض المصري للهدنة مع الاحتلال إلى زيادة المأزق الذي تعاني منه جميع الأطراف ذات العلاقة بالصراع.
المأزق الإسرائيلي
ستؤدي موافقة حماس ورفض نتنياهو ومجلس الحرب للعرض المصري إلى زيادة الضغط الداخلي على نتنياهو ومجلسه، لأنه سيظهر مسؤولا أمام جمهوره عن تعطيل تبادل الأسرى الفلسطينيين مع الأسرى "الإسرائيليين" في قطاع غزة. يختلف الأمر هذه المرة عن الفصول السابقة من المفاوضات، لأن وسائل الإعلام كانت تشيع أن العرض المصري مقبول أو قريب جدا من الموافقة "الإسرائيلية"، فيما كانت مصادر "حماس" توكد على مواقفها السابقة من الهدنة في تلميح إلى أنها سترفض العرض المقدم لها. موافقة "حماس" أمس في ظل هذه الظروف المختلفة جعلت نتنياهو مسؤولا عن تراجع فرص التهدئة، ومن وجهة نظر الجمهور "الإسرائيلي" مسؤولا عن تأخير إطلاق أسرى الاحتلال من قطاع غزة.
ولكن هذا المأزق الذي وُضع فيه نتنياهو لا يعني أنه سيضطره إلى الموافقة على العرض المصري تحت الضغط، لأن هدفه النهائي هو البقاء في الحكم وعدم الدخول للسجن بسبب محاكمات الفساد التي تنتظره، كما أنه لا يزال يتحرك بدافع الانتقام "البدائي" بعد تحمله مسؤولية الإخفاق في 7 أكتوبر.
المأزق الأمريكي
على الصعيد الأمريكي، درجت إدارة بايدن على تحميل "حماس" مسؤولية عدم الإفراج عن الأسرى "الإسرائيليين" وعن استمرار الحرب لأنها رفضت العروض السابقة لوقف إطلاق النار. بعد موافقة حماس، ستسقط هذه الذريعة وتضع الإدارة في مأزق جديد.
ليس هذا المأزق بالطبع بسبب مزاعم واشنطن "الأخلاقية" ولكنه لأسباب براغماتية وسياسية خالصة. أولى أسباب المأزق هو قرب الانتخابات الرئاسية وعدم رغبة الإدارة باستمرار الحرب بمستواها المرتفع على موعد قريب من الاستحقاق الرئاسي، خصوصا أن "الصوت العربي والمسلم والتقدمي" بات يمثل خطرا على فرص نجاح بايدن بالفوز على ترامب.
أما السبب الثاني فهو ارتفاع مستوى التظاهرات الشعبية الرافضة للعدوان وتعمق أزمة حراك الجامعات الأمريكية، التي أظهرت مستوى القمع الهائل للشرطة، وزادت التعاطف مع الطلاب، وسببت إحراجا مزدوجا جديدا لإدارة بايدن، من قبل الرافضين لعنف الشرطة من جهة، ومن قبل ترامب الذي اتهم منافسه بالضعف، من جهة أخرى.
ثالث مظاهر المأزق الأمريكي بعد موافقة حماس على عرض الهدنة هو ظهور عجز إدارة بايدن في مواجهة نتنياهو. لقد ظهر الأخير "بارعا" في التلاعب بالإدارة، فهو يدرك أنها من ناحية استراتيجية تريد انتصارا كاملا للاحتلال في غزة رغم تصريحاتها التي تبدي خلافا مع نتنياهو، ويعلم مقدار قوة الدعم للعدوان داخل الكونجرس ومجلس الشيوخ وهو ما يحجم قدرة بايدن على الضغط، ويقرأ قوة "اللوبي الإسرائيلي" في واشنطن، ما يجعله قادرا على زيادة مأزق بايدن والتحكم بخيوط كثيرة من لعبة القرار في الإدارة الأمريكية.
هل سيؤدي هذا المأزق الأمريكي إلى ضغط حقيقي على نتنياهو؟ غالبا أن هذا لن يحدث للأسباب المذكورة آنفا، وأن السيناريو المرجح هو الاتفاق بين واشنطن وتل أبيب على عملية بمستوى أقل من الاجتياحات السابقة لمناطق قطاع غزة في الوسط والشمال، وهو ما سيبقي على بايدن إدارة مأزقه الداخلي حتى الانتخابات القادمة.
المأزق المصري
قبل ساعات من إعلان حماس موافقتها على العرض المصري، صرح "مصدر رفيع المستوى" لقناة القاهرة الإخبارية بأن هجوم حماس على قوات الاحتلال في معبر "كرم أبو سالم" أدى إلى تعثر صفقة الهدنة. حدث هذا رغم أن مصر لم توجه اللوم خلال الأشهر الماضية لرئيس حكومة الاحتلال نتنياهو الذي كان مسؤولا عن تعثر وقف إطلاق النار بسبب إصراره على عدم الانسحاب من المناطق التي احتلها جيشه في غزة، وعدم عودة النازحين للشمال، إضافة إلى رفضه لوقف دائم للحرب حتى الآن.
أدت موافقة حماس على العرض المصري لوضع القاهرة في مأزق من عدة مظاهر. الأول، هو أن مصر يجب أن تعلن مسؤولية الاحتلال عن تعثر الصفقة بعد رفضها من قبل "مجلس الحرب"، وإلا فإن انحيازها -المعلوم للجميع- سيتأكد أمام من كان على عيونه بعض الغشاوة.
أما المظهر الثاني للمأزق المصري، فهو أنها خسرت رصيدا استراتيجيا كبيرا كانت ستحصل عليه لو تم التوصل لوقف إطلاق النار بناء على العرض الذي قدمته، بعد فشل المفاوضات لمدة أشهر.
ولكن المأزق المصري الأكبر بعد موافقة حماس فهو بسبب موقفها المخزي من هجوم الاحتلال على معبر رفح، بعد ساعات من هذه الموافقة. لقد احتل الجيش الصهيوني معبر رفح من الجهة الفلسطينية، دون مراعاة لأية اتفاقات بين تل أبيب والقاهرة (مثل كامب ديفيد واتفاقية المعابر 2005)، ودون احترام لنداءات ورفض "الحليف المصري" لعدم الاقتراب من منطقة رفح، وها هي القوات الاحتلالية تصل للحدود المصرية نفسها.
احتلال معبر رفح والبدء بمهاجمة المدينة بعد موافقة حماس على العرض المصري، سيجعل القاهرة في مواجهة الاحتلال مباشرة، دون وجود ذرائع بمسؤولية حماس عن الوضع -لو استمرت برفض الصفقة- وسيكون المأزق المصري كبيرا، فعدم قدرة مصر على منع الاحتلال من احتلال معبر رفح ثم المدينة نفسها، سيظهر القاهرة بمزيد من الضعف، بل وسيرى الكثيرون أنها متوافقة أصلا مع الاحتلال على هذه الخطوة.
هل يعني هذا المأزق المصري أن القاهرة ستغير موقفها؟ لا نتوقع ذلك، فقد علمتنا غزة أن الموقف العربي والمصري تحديدا لم يعد فقط غير داعم للشعب الفلسطيني، بل هو وصل لمستوى التواطؤ مع الاحتلال.
إن وقوع مصر والاحتلال وأمريكا في مأزق بعد موافقة حماس على العرض المصري لا يعني انتهاء المأزق الفلسطيني، فهذا الشعب لا يزال يتعرض لأبشع جريمة في العصر الحديث من قبل قوات الاحتلال، بدعم أمريكي، وتواطؤ عربي، وخذلان عالمي، وفقدان لمبادرة ما تسمى "القيادة الفلسطينية" -هل يذكرها أحد؟- ولن تنتهي هذه الجريمة إلا بصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال، وتغير الظروف الإقليمية والدولية بشكل أعمق من التغيير الذي سببه المأزق الحالي الذي وقع فيه الجميع!