وافقت حركة حماس على مقترح مصري/ قطري لصفقة تبادل أسرى، يفترض أن تفضي إلى هدوء مستدام؛ من شأنه أن ينتهي بوقف العمليات العسكرية والعدائية وانسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزّة. بعد ساعات على هذه الموافقة، يحتلّ جيش الاحتلال معبر رفح من الجهة من الفلسطينية ويقتل عددا من موظفي المعبر المدنيين، ويدمّر كلّ ما مرّت به دباباته.
هذه المفارقة ما بين موافقة حماس على المقترح والعملية الإسرائيلية العدوانية في رفح؛ كاشفة عن حقيقة الموقف، هذا الانكشاف لا يجعل كبير أهمية لأيّ تخمين حول هذه العملية، هل هي محدودة ستقتصر على المعبر؟ وهل هي مؤقتة أم سيطيل جيش الاحتلال من وجوده في المعبر ومحور فيلادلفيا، أم هي جزء من عملية أوسع تهدف إلى إلحاق مدينة رفح بأخواتها السابقات تدميرا وإبادة؟ وهل هي لأغراض استراتيجية أم في سياق الضغط التفاوضي؟ وهل هي محلّ إجماع إسرائيلي داخل مجلس الحرب أم هي بدفع خاص من بنيامين نتنياهو نتيجة الحسابات والتناقضات الإسرائيلية الداخلية؟
القول بأنّه لا كبير معنى للتخمين إزاء هذه الأسئلة؛ لا يعني من حيث الأصل أن تحليل السلوك الإسرائيلي الآني غير مهم؛ ولكنه يعني أنّ الظرف الإقليمي والدولي مختلّ إلى درجة أنّ الإسرائيلي من شأنه أن يفعل ما يشاء، ولا يسعى أحد في العالم لعرقلة فعله سوى الفلسطيني، وهو في الظرف الراهن المقاومة الفلسطينية في غزّة.
مند بدء الحديث عن تباين أمريكي إسرائيلي في سياق هذه الحرب، كنتُ أحذّر من المبالغة في تصوّر حقيقة هذا الخلاف، لأنه في جوهره خلاف داخل البيت الواحد، وعلى طاولة واحدة، وعلى أساس الحرص على "إسرائيل" والرغبة في تحقيق الأفضل لها، تماما كاختلاف القادة الإسرائيليين أنفسهم في تقدير موقف ما ودراسة خيار ما، فالتباين الأمريكي الإسرائيلي ليس تباينا بين منفصلين، ولكنه تباين في إطار وحدة الحال.
لا يقلّ عن ذلك أهمية، موضوعان، الأوّل أنّ الحرب دخلت شهرها الثامن بدعم الأمريكي وانخراطه الكثيف والمباشر فيها من كل وجه فيها، فأيّ مخاوف أخلاقية على المدنيين تُنسب للأمريكي محض تضليل. والمقام يضيق عن استيعاب الانحطاط الأخلاقي الذي وسم السلوك الأمريكي في هذه الحرب، من إطلاق يد الإسرائيلي، ومنحه الفرصة الطويلة لتحقيق أهدافه بطريقته حتى لو كان الأمريكي يفضل طريقة أخرى، ودعمه بكل ما يلزم عسكريّا واستخباراتيّا واقتصاديّا ودعائيّا وسياسيّا، وتبني روايته، وتكذيب أعداد الضحايا الفلسطينيين (في شهور الحرب الأولى على الأقل)، وإفشال كلّ محاولات وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، فلا ينبغي في سياق التحليل الترويج لأيّ مخاوف أخلاقية أمريكية لا وجود لها في الحقيقة في هذا العالم المختلّ.
إلا أنّ الأهمّ في استعراض هذا الموضوع الأوّل، هو الموضوع الثاني المنبثق عنه، وهو أنّ الأمريكي سيبقى كتفه بكتف الإسرائيلي، ما دامت حرب الإسرائيلي قائمة، أي أنّ الإسرائيلي لو نجح في فرض حربه، وإنفاذ خياراته، فإنّ الأمريكي لن يكفّ عن عدمه، لأنّ القضية الإسرائيلية قضية أمريكية، ودعم "إسرائيل" هو دعم لذراع الإمبراطورية في المنطقة العربية، وموقع "إسرائيل" في القلب الأمريكي وشيج من كل جهة، وهذه هي الخبرة الإسرائيلية مع المواقف الأمريكية، وهذا هو العِلم الإسرائيلي عن موقع "إسرائيل" في القلب الأمريكي.
فقط، في هذا الصراع الطويل كان الرفض الفلسطيني المترجم فعلا وعملا، هو الذي يعرقل الفعل الإسرائيلي، ويثبت للأمريكي خطأ حساباته، وإلا فأيّ شيء يثير انزعاج الأمريكي ومخاوفه سوى فشل الإسرائيلي في تحقيق أهدافه طوال الشهور السبعة المنصرمة؟ ومن الذي أفشل الإسرائيلي حتى بات الأمريكي يبحث عن مخرج له؟ إنها مقاومة الفلسطينيين في غزة. وهنا ينبغي أن نتذكر أنّ هذا الأمريكي كان متواطئا مع الإسرائيلي في أسابيع الحرب الأولى حتى في خطّة تهجير الفلسطينيين من غزّة التي سعى أنتوني بلينكن، وزير خارجية أمريكا، لفرضها على عدد من الدول العربية.
يبقى ما هو أسوأ، وهو حقيقة الحال العربي. أيضا ليس مهمّا هنا النقاش حول جوهر التردّي العربي، هل هو تخاذل أم تواطؤ؟ وعلى كلا الحالين ما هي أسباب هذا الضعف، ولماذا وصل العرب إلى هنا؟ لأنّ النتيجة واحدة، ولم تقتصر على العجز إزاء الاندفاع الإسرائيلي، أو ترك الفلسطيني وحيدا، أو الحياد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بعدما كان صراعا عربيّا إسرائيليّا، ولكنه وصل حدّ التطبيع التحالفي، وفي الحرب القائمة تكفي فقط متابعة عدد من القنوات التلفزيونية العربية الممولة رسميّا من حكومات عربية، وتبث من داخل بلاد عربيّة، لنشاهد الحرب الدعائية الإسرائيلية على الفلسطينيين بأصوات ووجوه وأموال عربية، بما يكشف عن الموقف الحقيقي لتلك الحكومات.
الخبرة الإسرائيلية تقول إنه يمكن لـ"إسرائيل" أن تفعل ما تشاء وأنه لن يحصل شيء بعد ذلك. يقال إن هذه الخبرة بدأت مع حريق المسجد الأقصى عام 1969، لكن وبقطع النظر هل نامت غولدمائير وقتها مهمومة من غضبة عربية لا تبقي ولا تذر لتسيتقظ على نقيض مخاوفها تماما؛ أم أن ما ينسب لمخاوف غولدا مائير تلك مجرد نكتة فلسطينية تعتصر ألما وحزنا؛ فإن بتسلئيل سموتريش وإيتمار بن غفير قالا أكثر من مرة إن المخاوف من ردود أفعال عربية على فرض الوقائع الإسرائيلية في المسجد الأقصى كانت دائما غير حقيقية، وفي هذه الحرب قال نتنياهو: "لقد فعلنا كلّ ما حذرونا منه، ولم يحصل شيء".
هذه الخبرة الإسرائيلية، من صورها قريبة العهد، الانتفاضة الثانية التي أعادت فيها "إسرائيل" اجتياح مناطق (أ) وحاصرت فيها ياسر عرفات وقتلته. ياسر عرفات الذي يفترض أنه رئيس عربي؛ كان منسلكا في خطّ التسوية والسلام والمفاوضات، وهو من وقع اتفاقية أوسلو، ولم يكن متهما بالعلاقة مع إيران، ولا هو زعيم لجماعة إسلامية، بل كان جزءا من النظام الرسمي العربي، ومع ذلك تواطأ عليه هذا النظام، وشارك في التخلّص منه، فليس ثمّة حاجة لاستعراض الموقف الرسمي العربي من حروب "إسرائيل" منذ العام 2006 على لبنان، مرورا بحرب العام 2008/2009 على غزة التي أعلنتها تسيفي ليفني من القاهرة، عبورا بكل ما تلاها من حروب.
وأخيرا فإن احتلال محور فيلادلفيا، بما ينتهك اتفاقية كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية التي تمنع هذا العدد من القوات الإسرائيلية بهذا النوع من العتاد على الحدود المصرية، وبما يُعد رفضّا إسرائيليّا للمقترح المصري بالنار والطائرات والدبابات، هو استمرار لهذه الخبرة الإسرائيلية.. لن يفعل أحد شيئا! إنه تأكيد للمؤكد!
فلنتخيل لو أنّ طفلا فلسطينيّا أصغر من سنّ التمييز، ضُبِط وهو محزون مكلوم يشتم، لإحساسه العميق بالخذلان، حاكما عربيّا.. فلنتخيل تلك الحرب التي سوف تُعلن على الفلسطينيين في إعلام ذلك البلد العربيّ، وكيف أن تلك الشتيمة سوف تُستخدم كالمعتاد، في تنميط الفلسطينيين، وفي عزل عرب ذلك البلد عن إخوانهم عرب فلسطين، وفي اصطناع بطولات وهمية وحياكة أساطير العظمة واجتراح شكيمة بائسة، ضد الشعب الفلسطيني.
عالم مختلّ.. وكوميديا سوداء تلفّ العرب!