حافلات في طابور طويل تحمل أمتعة وأغطية في مشهد نزوح متكرر منذ سبعة أشهر يعتليها أفراد الأسرة، نساء ورجال وأطفال يحملون حقائب ويمشون سيرًا على الأقدام لم يفلحوا في إيجاد وسيلة نقل فيسيرون عدة كيلو مترات هربًا من آلة الدمار، سيارات بحمولة رباعية امتلأت فوق طاقتها، عربات تجرها حيوان، وأشخاص يدفعون عربات، كل أنواع وسائل النقل تجدها أمامك، وفي الأفق تتصاعد ألسنة اللهب القادمة من المناطق الشرقية لمحافظة رفح، هكذا كان المشد في محافظة رفح اليوم.
كانت "أم أحمد" تسير مشيًا منهكة وهي تحمل حقيبتين ومعها ثلاث نساء وخمسة أطفال كل طفل يحمل حقيبةً صغيرة، تجيب بصوتها الضعيف المتعب عن سؤالي حول وجهتها: "والله يا ابني، ما لقينا سيارة، وطلعنا بهاي الأمتعة، مش عارفة وين أروح!".
على مقربة من منها تعطلت عربة بأربع عجلات تدفعها سيدة قادمة من "حي السلام" شرق رفح مع نجلها الصغير، تحمل عدة فرشات وحقيبة كبيرة واسطوانة غاز، هذا كل ما خرجت به واستودعت كل بيتها للمولى عز وجل، قابلتها وسط البلد وكانت لا تستطيع دفع العربة التي تعرضت عجلتها للثقب وأصبحت غير قادرة على السير مثل عجوز طاعنة في السن، وبعد انتظار وجدت عربة يجرها حيوان قامت بربطها بها وواصلت طريقها محاولة الوصول لبيت شقيقتها غرب محافظة رفح.
امتلأت الأرصفة بعائلات تفترش الطرقات أخذت استراحة تحاول التقاط أنفاسها، كل منهم يحاول إيجاد وسيلة نقل في ظل أزمة سير وأزمة وقود الشحيح في المحافظة.
صباح اليوم ألقت الطائرات الإسرائيلية مناشيرها على مناطق شرقي محافظة رفح تطلب من المواطنين والنازحين الإخلاء إلى منطقة المواصي الممتدة من محافظة رفح وغرب محافظة خان يونس إلى منطقة دير البلح وسط القطاع، لتبدأ موجة نزوح جديدة ومعاناة لا تنتهي، يغادرون منازلهم قسرًا تحت التهديد ثم القصف والتدمير، يغادرونها بنظرات وداع تسبقهم دموع تتحجر في عيونهم الشاخصة إلى صور وذكريات وبيوت وليتهم يستطيعون حمل منازلهم معهم.
تبدأ رحلة النزوح باصطحاب أكثر الأمتعة والأغراض ضرورةً، وأكثرها احتياجًا واستعمالاً في مكان النزوح الجديد الذي تنتظرهم فيه خيمة قماشية بمساحة لا تزيد عن مساحة غرفة سكنية، تفترشها الرمال، ينتظرهم جيشٌ من الذباب ليؤرق حياتهم، وروتين حياة يومي قاس يدور بين متطلبات يومية ملحة وصعبة، بالذهاب لأحد الآبار قد يكون قريبا أو بعيدا لتعبئة مياه مالحة للاستعمال المنزلي ومياه صالحة للشرب، ولا تتوقف عند البحث عن شراء طعام الغداء، ولا عند طهي الطعام على الحطب، تسلعهم الشمس الحارقة وتغير ملامحهم.
يرسم النزوح مسيرًا مختلفًا يغير لعائلتك مجرى حياتهم، بعد أن كانت تنعم في دفء منزل يتسع لغمرهم بالحب يوفر نوعًا من الأمن في حال لم تطله صواريخ الاحتلال، يقيهم من الحرارة والمطر بخلاف الخيمة التي لا تبذل أشعة الشمس جهدا كبيرا في تحويلها إلى فرن حارق، ولا مياه الأمطار في الولوج لداخلها وغسل الأمتعة بالمياه وتحويل أرضيتها لمستنقع طيني.
كل منا في قطاع غزة عاش تجارب نزوحٍ متكررة، سواء بالتنقل بين المناطق داخل المحافظة الواحدة بين مدراسها، ومستشفياتها وبيوتها المخلاة تحت القصف المتواصل والأحزمة النارية وبين الركام وجثث الشهداء وأمام مدافع الدبابات والآليات ونيرانها وتحت مرأى مسيّرات الاحتلال وطائراته الحربية والمروحية والانتحارية، أو بالنزوح بين المحافظات في منطقة جديدة لا تعرفك ولا تعرفها رغم أنها في بقعة من تراب بلدك، ليلها حالك ونهارها شاق.
بعد سبعة أشهر من عمر الحرب، أرهق النزوح المتكرر الناس، وسرق جيبوهم بعد أن نفدت أموالهم، فتكلفة نقل الأمتعة والأغراض بالشاحنة باهظًا كلما زاد ثقل الأمتعة زادت تكلفة النقل بالتالي يترك الناس معظم الأغراض ويأخذون الأكثر ضرورة، وجدتُ عائلات لم يعد بمقدورها دفع حتى ثمن نقل الأمتعة، وبعضها لم يجد خيمةً، بعضهم غادر بيوتهم مشيًا، يجرون عدة حقائب في الطرق، يداهمهم سواد الليل الحالك قبل أن يصلوا للمكان الجديد، فيبيتون في العراء أو أسفل جدران يشاهدون وميض الصواريخ وصوتها وهي تنهال على رفح.
بلا عناء اتخذ الاحتلال قرار إجلاء المناطق الشرقية لمحافظة رفح، وهذه تمهد تدريجيا للتعمق بالمحافظة، وبلا عناء ألقت الطائرات مناشيرًا تطالب سكان تلك المناطق بالإجلاء نحو منطقة المواصي وهي منطقة رملية ذات طقس حارق في الصيف، لأن آلة الدمار ستعمل أتوماتيكيا لوأد الحياة وطمس معالها وتغيير ملامح رفح وأبنيتها وشوارعها وهذه يحصل عليه الاحتلال بتبرع سخيٍ من أمريكا التي لم تبخل في مد (إسرائيل) بكل أدوات القتل والتدمير.
العناء الوحيد، هو لدى السكان والعائلات، فقرار مغادرة البيوت قسرًا كانتزاع الأرواح من الأجساد، حيث تهدم الذكريات قبل الحجارة، ويتوقف الزمن وتتعطل الحياة.
يعرف العالم أن دخول جيش الاحتلال إلى رفح المكتظة بنحو مليون و400 ألف نازح ومواطن بمثابة "مذبحة تاريخية" لكنهم يصمتون على هذه الجريمة. إن أفضل مناصرة الآن للقضية الفلسطينية هي تكرار تجربة جامعة "كولومبيا" في أمريكا بالتظاهر في كافة جامعات العالم، في كافة الشوارع، في المدارس، ودور الثقافة وملاعب كرة القدم، لأن الإنسانية اليوم مهددة وعلى العالم أن ينحاز إلى فطرته وإنسانيته ولقيم العدالة وحقوق الإنسان بالحياة والعيش ولحق الأطفال في اللعب، وكلها اليوم تنتهك وتدمر.