قبل غزة، قبل سبعة شهور، كان يمكن أن تُخلط الألوان وتجرّد من الأشياء، أو تجرّد الأشياء من ألوانها، وكان يمكن أن تخلط الأوراق، وتعيد رسم الأضداد، وتعيش وحيدا، أو تعلن أنا وحدي، أنا الغياب والضباب، وأنا الضياع وأنا لست أنا، وأنت لست أنت. كنا نستطيع أن نجتهد كما شئنا، أو نعيد رسم العالم كما شئنا، ونعلن حريّة كل فرد كما شاء، علما أننا جميعا أبناء نكبة فلسطين. فقد سلمنا بأن النكبة ستطول، ولا بصيص أمل، وإن القهر الصهيوني يمكن أن ينتهي، فقرر بعضنا أن نعيش حياة اغتراب، وحياة وحدة، ويصبح المحور أناي، ليكون البوصلة.
كان بإمكاننا، وهذا ما فعلنا، أن نقبل باقتسام فلسطين، ولو كنا بعضا من كل، وكما قال الشاعر "إِنَّ الكِرامَ قليل" فنتقبل بأن نصفح عما حدث في العام 1948، وقد أسماه آباؤنا وأجدادنا بالنكبة، ونبدأ من جديد، ونجعل من شعارنا أن نحب الحياة، وأن نرى في فلسطين ما يستحق الحياة، ولو تحت الاحتلال، وبشروط اتفاق أوسلو، بعد أن نكون وافقنا على قرار التقسيم، وقرار 242. وكفى عنادا بأن فلسطين كلها لنا، والكيان الصهيوني غير شرعي.
كان بإمكان شاعر كبير، مثلا، أن يدعو قاتل أطفال بأن يفكر كيف لو لم يقتل من قتل من أطفالنا، وتركهم يكبرون ويذهبون إلى الجامعة مع أبنائه، وبحكم وجودهم في الجامعة، قد يحب، ابني الذي لم يقتله ابنته ويتزوجان، وينجبان طفلة (حفيدتي) التي تصبح يهودية بالولادة، لأن أمها يهودية. يعني أن ثمة عرضا على القاتل أن نتصاهر بعد جيل، ولكن لا حياة لمن تنادي: العرض مرفوض.
وكان بالإمكان عرض صورة أخرى، وقوع فلسطيني و"إسرائيلي" في حفرة، ويدخلان في العراك أو الخصام، وفجأة يظهر ثعبان أسود مرقط (ربما يقصد حماس) ويهمّ بالتهامهما معا. فالحل أن يتفقا عليه، لكي يتخلصا منه أولا. وتترك القصة مفتوحة، بلا نهاية، للتأمل، أو عرض حالة تشارك، وتصالح، وتسامح، من جانبنا، وبهذا تعرض عليه صفقة. ولكن، أيضا، لا حياة لمن تنادي.
وقبل سبعة أشهر أيضا، كان من الممكن أن تجد من يتهم المُطالِب بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، مغامرا متهورا، أو لا واقعيا، أو خشبيا أو حالِما، أو عازفا على قيثار المِحال..
وكان من الممكن أن يعتبر المقاومة المسلحة ضربا من خراب البيت، والعبث، فكأنك تلاطم المخرز بعينك، أو تحمل الجمر بيديك، وإن يسقط، تسقطه على رجليك.
وكان من الممكن أن يعلن رئيس م.ت.ف أن المقاومة إرهاب متجاهلا أنه صاحب الطلقة الأولى، ثم يعود بعد رحلة عذاب في المفاوضات إلى الانتفاضة المسلحة من 2000 إلى 2005، وينتهي باغتياله، وتجرع السم شهيدا. وكان من الممكن أن يأتي رئيس آخر من بعده، يعتبر التفاوض ثم التفاوض طريقا وحيدا أمام الفلسطينيين، لا ثاني له، حتى لو انتهى بنا إلى دمار.
بكلمة، قبل طوفان الأقصى شيء وعالم وممكنات، وبعد طوفان الأقصى والسبعة أشهر شيء، وعالم آخر وممكنات أخرى. هذا المتغير له أبعاد:
أولا: مجزرة وإبادة إنسانية وتدمير بيوت سكنية ومستشفيات، وفرض حصار جوع حتى الموت، وحصار عطش حتى الموت، ومنع دواء، وغطاء وسقف، وبناء، وبمشهد أطفال مكسرة عظامهم، أو ينزفون حتى الاستشهاد.
وثانيا: قتال في حرب ضروس بين مقاومة مسلحة ظلت فيها يدها العليا، والجيش الصهيوني يحارب بقضِّه وقضيضه، دون جدوى، ومعه إمداد عسكري أمريكي، يعوّضه بالقذائف والسلاح ويغطيه سياسيا. هذا، ولا يستطيع أن يوقف إطلاق النار لئلا يعلن الهزيمة، فيستمر معاندا في حرب عبثية، وعوامل عدة فلسطينية وإقليمية وعالمية، وبتناقضات داخلية، صدّعت الغرب والداخل الصهيوني حتى بلغت الأنفاس التراقي.
بكلمة، وبعد، سبعة أشهر، لم يعد مسموحا، أن يخرج أي من الأصوات المهادنة، أو المصالحة، أو المسامحة، أو المساومة، أو المتراجعة، كتلك التي وجدت لها مكانا طوال 75 سنة منذ نكبة 1948، أو قبلها أو بعدها.
العنوان الآن، من غير المسموح التخلي عن ثابت تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، كما من غير المسموح التخلي عن استراتيجية المقاومة المسلحة. ولم يعد مقبولا من فلسطيني عايش المجزرة والمقاومة في غزة والضفة أن يتخلى عنهما أو ينوء عن حملهما أو يتنكر لهما، أو يستعطف غاصب فلسطين، أو أن يطلب التعايش معه، وهو المسؤول عن إفشال كل ما أشير إليه في المرحلة السابقة، من مساومة وحتى استعطاف.
أما اليوم فبعد طوفان الأقصى وسبعة أشهر من مجزرة ومقاومة وصمود لم يعد مسموحا، لا عقلا ولا ضميرا، ولا تجربة تاريخية، أن يخل أحد بأحد الاثنين، تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، واستراتيجية المقاومة وما يسندها من تكتيك وسياسات.
هذه السبعة أشهر أشركت غالبية الشعب الفلسطيني بأن يصبح جزءا من عملية طوفان الأقصى، وجزءا من المجزرة والإبادة التي عشناها بقلوبنا وعقولنا ودموعنا وبالغضب الإنساني الأصعب، وجزءا من مقاومة مسلحة، أنزلت الهزائم بالجيش الذي لا يقهر. يجب ألا يخطئ مثقف أو شاعر أو عالم، أو فلسطيني أو فلسطينية باستعادة ولو صوت واحد من الأصوات التي علت بجرأة في المرحلة السابقة، وكانت نتيجتها فشلا، وإدارة ظهر واقترافا لمجزرة إبادة تعلم عصافير الدوري أن تصبح صقورا ونسورا، وخراف المراعي أن تصبح نمورا وأسودا. عندئذ تُستحق الحياة، بل وتحلو في مرج بن عامر، والناقورة وبئر السبع وأم الرشراش.