شبكة قدس الإخبارية

العالم والإبادة الغزاوية

العالم والإبادة الغزاوية
منير شفيق

إن المجزرة الإبادية المتواصلة ضدّ المدنيين، ولا سيما الأطفال، طوال الستة أشهر الماضية في قطاع غزة، خرجت من إطار الحرب العسكرية، بل من إطار ما عُرِف قبلها من مجازر، وذلك بسبب عالمية مرتكبها الصهيوني، ثم أمريكا والغرب في دعمه وحمايته وتغطيته. كما بسبب الطرف المستهدف، من المدنيين الغزاويين الذين هم جزء من الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية، وما تمثله المقاومة المسلحة من رمزية، في إطار حركة التحرير العالمية، من الاستعمار والإقتلاع والإحلال الاستيطانيين.

من يتأمّل جيدًا في هذه الحرب الإبادية للمدنيين، وامتدادها من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى منتصف نيسان/أبريل، وما زال الحبل على الجرار، يجدها مختلفة عمّا سواها. وذلك، أولاً، بأنها جرت، وتجري، يومًا بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، أمام نظر العالم وسمعه. مما جعلها تترك، لهوْلها وطول أمدها، وطبيعة مرتكبيها، وستترك، آثارًا ونتائج تشمل شعوبًا بأسرها، بل العالم بأسره. وذلك، ثانيًا، لعدم قدرة “العالم” حتى الآن على وقفها، ومن ثم استمرارها المروّع والمتحدّي للعالم، بأغلب دوله وملايينه، وهي تتظاهر مطالبة بوقفها، الأمر الذي يترك، وسيترك، آثارًا ونتائج، متعدّدة الأبعاد. فالعالم بعد حرب الإبادة هذه، لن يكون، كما كان قبلها. 

وإن من تلك الأبعاد ما سيكون ثقيلًا على ضمائر الملايين، وغضبهم على مرتكبها ومناصريه. كيف لم يوقفوا المجزرة. هذه المجزرة التي عذبت من يشاهدها ليالي وأيامًا وشهورًا.

فأيّ استهتار هو هذا، بكل ما عرفته الإنسانية من قِيَم وأخلاق، وتوافقت عليه، كأعراف عالمية. ويكفي أن تتوقف أمام تعمّد قتل الأطفال والتنكيل بأجسادهم، وترك الآلاف، وربما عشرات الآلاف،  من الأطفال، معوّقين إعاقات دائمة، وبلا أم وأب، وحتى أقارب (أبيدت عائلات بأسرها). 

هذا يعني أن الكيان الصهيوني، بأغلبية قادته ومستوطنيه، قرّر أن يقول للعالم كله، وليس للفلسطينيين والعرب والمسلمين فقط، أنا أفعل ما أريد، وسأقضي، وأجعلكم تقضون، على كل ما اعتبرتموه، من قِيَم عليا، وأخلاق سامية، أو قوانين دولية، أو ما راح يخرج بالإنسانية من  قانون الغاب. فالقانون الذي سأعيدكم إليه هو قانون وحوش جُنَّت، وتريد العالم، غابة من صنعها. 

إن استمرار الإبادة الإنسانية في قطاع غزة، وبعد مرور ستة أشهر عليها، لم يعد بالإمكان، كما اعتاد البعض، أن يسمى باليمين أو التطرف الديني في الكيان الصهيوني. فهذه الأوصاف والتحليلات ربما كانت مفسّرة لسياسات الكيان الصهيوني قبل حرب الإبادة، إذ كان هنالك مستوى معين من “العقلانية” المتطرفة التي تحكم الممارسة. أمّا ما راح يعبّر عنه الكيان الصهيوني في حرب الإبادة هذه، فقد خرج من إطار التعصب والعنصرية والإجرام، ليدخل في إطار “اللاعقل المطلق في القتل”، وفي “الشرّ المطلق”، وكل ما له علاقة بالانحطاط الإنساني، ولم يعد له ثمة من وصف. 

لقد تورّط العالم كله، وهو يشاهد الإبادة، وحدودها ومداها، كما تترجم الآن، وتَفرض على العالم أن يتخلى عن القانون الدولي، وعن الضمير، وعن العقل والقِيَم والأخلاق والأديان، وكل ما هو خير وإنساني، فيسكت ويقبل بما يحدث، ويبتلع الخضوع، كونه لم يستطع، حتى الآن، أن يوقف المجزرة. ومن ثم عليه أن يتخلى عن آخر بقايا الضمير، وهو يرى الأطفال في قطاع غزة، يعذبون ويقتلون وتمزّق أجسادهم. 

وإن من يتخلى عن آخر بقايا الضمير يتخلى عن إنسانيته، ويسلمها للوحوش الجدد، ويسلم مصير الإنسانية للفوضى واللاعقل، وللمجهول.