قطاع غزة - خاص شبكة قُدس: تجمدت نظراتها حين قرأت الخبر الوارد من تطبيق "تليجرام" باستهداف منزلٍ نزحت إليه عائلتها من مخيم الشاطئ بمدينة غزة إلى مخيم النصيرات وسط القطاع، فجر 21 نوفمبر/ تشرين ثاني 2023، توقف عقلها لثوانٍ عن العمل وهي تشاهد مقطعًا مرئيًا لانتشال جثامين 48 شهيدًا بينهم والداها وأشقاؤها وأخواتها وأولادهم إضافة لشقيقة صاحب البيت وأولادها.
ترى صابرين عليان أشجار ورقة العائلة تتساقط من الفروع والأغصان وتخلع الشجرة من جذورها وحل خريف الفقد على قلوب الناجين، وكأنَّ الزمن توقف بها في تلك اللحظة، أو أنها تعيش في حلمٍ.
مرت عدة ساعات وهي غارقة في التساؤلات التي كانت تعصف بعقلها، وكأنَّه سينفجر، يجتاح قلبها ألمٌ كبير وتنهمر دموعها وهي تنظر بصدمة لأسماء عائلتها مدونة على أكياس سمراء تضم أشلاءهم وبقايا أجسادهم التي استطاعت فرق الطوارئ والدفاع المدني انتشالهم، تكتوي بنيران لم يضرمها قلبها من قبل فلم تكن تتخيل أنها ستعيش يوما تشهد فيه رحيلا جماعيًا لعائلتها.
قبل إتمام الهدنة الإنسانية بيومين حدثت المجزرة المروعة بحق عائلة "عليان"، وعلى مدار أربعة أيام ظلت طواقم الإنقاذ تنتشل الشهداء من تحت أنقاض البيت الكبير المكون من ثلاث طبقات سوتها طائرات الاحتلال بالأرض، وتعود ملكيته للطبيب عبد اللطيف الحاج.
بيت آمن
مع نزوح أهالي مدينتي غزة وشمال القطاع، مع بدء حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على قطاع، اتخذت عائلة "عليان" التي تسكن بمخيم الشاطئ قرارها بالنزوح كحال باقي الأهالي، وكانت وجهتهم منزل شقيقتهم "آية" التي تعمل في برامج الأمم المتحدة الإنمائي (UN) وزوجها الطبيب "عبد اللطيف" الذي فتح أبواب منزله لاستيعاب عدد كبير من النازحين من الأقارب والأنساب، معتقدين أنه منزل آمن وبعيد عن عيون طائرات الاحتلال.
"ذهب والدي عبد العزيز عليان، وأشقائي محمد ومحمود ويوسف وأولادهم، وشقيقتاي نسرين وجيهان وأولادهما لمنزل شقيقتي "آية" بعد أسبوعين من اندلاع الحرب معتقدين أن البيت آمن"،تخنق الدموع صوت شقيقتهم المغتربة صابرين عليان وهي تروي قصة عائلتها التي اقتلعت من جذورها واستشهد من دائرتها المقربة 37 فردًا.
يغيَّبُ البكاءُ صوتَها، قبل أن تلملم المشاهد المتناثرة في زحام ذاكرتها، قائلة: "كان لدينا أمل أن نجد أحياءً، لكن عندما شاهدت المبنى وقد سوي بالأرض، تضاءلت الأحلام، كنت أقرب الصور وأرى الأسماء مكتوبة على أكياس الشهداء، قرأت اسم أبي وأمي وأخوتي، كانت لحظات صعبة لا يستوعبها عقل".
من أعلى شجرة العائلة استشهد والدها عبد العزيز (86 عاما) وأمها زينب الغول، وشقيقها محمود عليان ويعمل منسقا لتصاريح العمال في هيئة الشؤون المدنية واستشهدت معه زوجته وأولاده الأربعة أصغرهم طفل رضيع لا يتجاوز عمره ثلاثة أشهر، وشقيقها "محمد" استشهد مع أولاده الأربعة أكبرهم عمره 14 عاما وأصغرهم ست سنوات بينما أصيبت زوجته نور عدنان الغول، وهي الوحيدة الناجية من عائلتها، واستشهدت أمها زوجة الشهيد عدنان الغول وهي "حماة" شقيقها محمد.
في قائمة الفقد، استشهد شقيقها يوسف عليان ويعمل ممرضا في مستشفى العيون، ونجت زوجته وأولاده الذين لم يتواجدوا بالبيت لحظة القصف وكانوا في منزل آخر، واستشهدت شقيقتها "نسرين" هي وابناها الصيدلي عصام وطفليه، والمهندس حسام عبد ربه ويعمل في شركة الاتصالات الفلسطينية "أوريدو" وطفله، واستشهدت بنات شقيقتها نسرين وهن: إسراء وأفنان ومسك ورغد ومعظمهن احتفلوا بتخرجهن الجامعي حديثًا.
ضمت قائمة الشهداء شقيقتها "جيهان" وزوجها خالد الحملاوي، وابنها موسى وابنتها لينا مع زوجها وطفليها "يحيى ولين"، واستشهد من عائلة الحاج سارة وقسام وديما الحاج والأخيرة استشهد معها زوجها وطفلها الرضيع وهي تعمل بمنظمة الصحة العالمية.
نجا من المجزرة الطبيب عبد اللطيف الحاج الذي كان على رأس عمله بالمستشفى، وزوجته "آية" التي أصيبت في كسور في عظام القفص الصدري وأصيبت ابنتها، ونجى حفيداها عبد الرحمن (7 أعوام) وأصيب بكسور بالحوض وشقيقته آية (14 يوما) والتي ولدت خلال الحرب وقدر لها أن تعيش وتخرج من تحت الردم حيّة وأصيبت بنزيف في الدماغ، ونجى طفلان من أبناء أخواتها من المجزرة.
أرض مهجورة
تملك عائلة عليان أرضا زراعية كبيرة ورثتها أمهم تقع بمحافظة الشمال، كانت الأرضُ وجهة العائلة في عطلة نهاية الأسبوع وفي مناسباتها، "عائلتنا مترابطة وبيننا أواصر قوية، دائما كنا نجتمع، وأهلي معروفون بين الناس أنهم عائلة مسالمة ويعملون بوظائف مرموقة ويهتمون بالتعليم فهو مهم جدا لدينا، وفي الرياضة فلدينا من أبناء أشقائي من يتعلمون الموسيقى في معهد إدوارد سعيد، وكرة السلة".
تستحضر صابرين صورا من الترابط العائلي بينهم "دائما تراهم مع بعضهم، أولاد الأخوة كأنهم أشقاء وليسوا أبناء عم، الحب متجذر بين الأخوة".
"علاقتنا كلها فرح ولمات أسرية، دائما نجتمع وأحيانا ينام أخوتي يومي الخميس والجمعة في أرضنا الزراعية، وفي رمضان يفطر أخوتي وأولادهم عند والدي، بيننا حب كبير ودائما تجمعنا لمات كبيرة، وكذلك في العيد كنا نجتمع في الأرض" رافق الأسى صوتها.
بقي من هذه العائلة الممتدة، ست شقيقات؛ ثلاثة منهن مغتربات، وثلاث شقيقات في غزة وهن "آية" التي فقدت أبناءها وبيتها، وأممية وسهير والأخيرة تولت مهمة مؤلمة بالتعرف على جميع أفراد العائلة وكانت تشاهد الأشلاء الممزقة.
يثقل الفقد قلبها "أمامنا رحلة وجع طويلة، لا نستوعب ما حدث وكأننا نعيش في حلم لا نستطيع الاستيقاظ منه".
رحلت العائلة وبقيت أرضهم الزراعية شاهدة على ذكريات وأيام جميلة ستطرق أصواتها أبواب ذاكرة من نجو حينما يزورون المكان وقد تناقصت أعدادهم، أصبحَ بيتهم في مخيم "الشاطئ" مهجورًا ولن تفتح أبوابه وسيبقى مغلقًا، وجوه وأسماء كثيرة في هذه العائلة جمعتها صابرين عليان في إطار صورة واحدة ضمت شجرة العائلة الممتدة، وهي واحدة من آلاف قصص الإبادة الجماعية التي طالت عائلات بأكملها، جمعها قبر واحد وعلق عليه شاهدٌ واحد على جرائم دموية ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة.