غزة - قدس الإخبارية: لم يتوانَ نتنياهو عن الحديث صراحة عن اجتياح رفح، وعدّه خطوة رئيسية في إطار استكمال “القضاء” على ألوية المقاومة المقاتلة في غزة، معتبراً أنّه من السخيف الحديث عن وقف القتال الآن، في ما تحدثت المصادر العسكرية عن تجهيز الجيش للخطط العملياتية اللازمة للتقدّم البري باتجاه رفح.
خصوصية رفح ومساحتها وعدد النازحين فيها، إضافة لكونها البوابة لأي عملية تهجير قسري لأهالي قطاع غزة يجعل من أي عملية عسكرية عدوانية تستهدف رفح تحظى بخصوصية مغايرة تماماً عن أي عمليات أخرى داخل حدود القتال، مما يفتح التساؤل حول السيناريوهات المتوقعة لمثل هذه الخطوة، وعوامل القوة والضعف لكل سيناريو.
الواقع الجغرافي والديمغرافي
رفح المحافظة الأصغر جغرافياً في قطاع غزة، ولا تتجاوز مساحتها الـ55 كلم مربع، في ما لم يتجاوز عدد سكانها الطبيعي الـ300 ألف نسمة، وشكّلت قبلة لعشرات آلاف النازحين منذ بداية الحرب الإجرامية ضد القطاع، والذين تضاعف عددهم مع تصاعد العمليات العدوانية التي استهدفت كلاً من محافظتي دير البلح (المخيّمات الوسطى)، وخانيونس، ليتكدس في رفح أكثر من مليون و400 ألف نازح، مما حوّلها إلى البقعة السكانية الأكثر كثافة في العالم، حيث يتكدس فيها كل كلم مربع أكثر من 27 ألف إنسان، إضافة لموقعها الجغرافي وكونها بوابة القطاع الوحيدة على العالم الخارجي عبر المنفذ البري الواصل بين قطاع غزة وجمهورية مصر العربية، إذ ينحشر عشرات الآلاف من النازحين في المحافظة على الشريط الحدودي مع جمهورية مصر العربية.
في غالبية الإعلانات الصادرة عن ناطقي جيش الاحتلال لإخلاء المناطق التي تعرضت لعدوان واسع، شكّلت رفح المحطة الرئيسية التي دُفع النازحين إليها، فاستحالت محطة لغالبية النازحين الخارجين من تحت النار والركام والعدوان المستمر، وهو ما حوّلها من محافظة، إلى مخيّم كبير للنازحين، إذ أضحت كل شوارع وأراضي رفح -حتى الحدودية الشرقية والجنوبية منها- مواقع لمخيّمات النازحين الذين لم تتسع لهم أماكن الإيواء المُجهزة مثل المدارس والمخيّمات.
تحذير دولي وبروباغندا إسرائيلية
توالت التحذيرات الإقليمية والدولية من مغبة اجتياح رفح ونتائجه الكارثية خصوصاً في ظل الأعداد المهولة للنازحين المتكدسين في شوارعها وأحيائها، ف يما بقي الموقف المصري متمسكاً برفضه وتحذيره من أي عملية عسكرية في رفح ولكن بوتائر متعددة انتقلت ما بين التحذير والتلويح بإجراءات تمس جوهر العلاقة بين الاحتلال والدولة المصرية، مترافقة مع إجراءات ميدانية على الأرض مرتبطة بدرجة أساسية بـ”تحصين الحدود” لمنع اختراقها من قِبل مئات الآلاف من النازحين الموجودين في المدينة الحدودية.
دوليا، انطلقت التحذيرات بذات الخصوص بدءاً من مفوض عام “الأونروا” وليس انتهاءً بإعلان البيت الأبيض “عدم دعمه” عملية عسكرية في رفح “دون تخطيط لأنّها تتعلق بأكثر من مليون شخص لجأوا إلى هناك وكذلك دون النظر في آثارها على المساعدات الإنسانية والمغادرة الآمنة للمواطنين الأجانب”.
على المقلب الآخر، وعلى ذات المنوال الذي جرى في عمليات مستشفى الشفاء، وجباليا، والشجاعية، وخانيونس، أشاع الاحتلال حالة واسعة من البروباغندا حول كون العملية العسكرية في رفح هي درة التاج لهذه الحرب العدوانية ضد القطاع، وهي الورقة التي ستُجهز على المقاومة، وأنّ الألوية الأخيرة للمقاومة التي ما زالت متماسكة هي في رفح، وادعاء وجود معلومات عن أنفاق تهريب على الحدود المصرية وسلسلة لا تنتهي من الادعاءات حول رفح في محاولة لتكرار نموذج الضغط المتواصل على الحاضنة الشعبية، والبحث عن انهيار معنوي كبير في صفوف المقاومة.
وبالرغم من فشل كل الرهانات الإسرائيلية المشابهة على مدار ما يقارب الـ5 شهور من القتال، فإنّ لرفح خصوصية مختلفة تماماً مرتبطة بكونها قد تكون البوابة لاندفاع الجماهير باتجاه الحدود المصرية وتطبيق سيناريو التهجير القسري إلى سيناء، ومن جهة أخرى بكونها الملجأ الأخير للحاضنة الشعبية المُنهكة من ويلات الحرب والحصار والتجويع والقتل المستمر في إطار المحاولات المستمرة لدفعها باتجاه الانهيار وحتى تأليبها على المقاومة وخلق حالة من الانفصام ما بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، وبالتالي يسعى الاحتلال لاستثمار الوضع الخاص لرفح في تحقيق ضغط مضاعف بشكل كبير جداً على قيادة المقاومة لخفض سقفها وانتزاع تنازلات جوهرية منها.
سيناريوهات العدوان وجدية التهديدات
بالرغم من وجود موقف دولي وإقليمي رافض ومُحذّر من مغبة الخوض في عملية عسكرية في رفح، إلا أنّ التصريحات الإسرائيلية والتي توّجها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بحديثه علانية أنّ الدعوات لعدم دخول مدينة رفح تحت أي ظرف من الظروف هي دعوات لخسارة الحرب، تعكس وجود نوايا جدية لتنفيذ عمل عداوني واسع على المدينة الفلسطينية، ولا يوحي بكونه مجرد ورقة ضغط بالمفاوضات الجارية حاليا.
-عملية واسعة: الشكل الذي يوحي الاحتلال بنيّته تنفيذه هو عملية واسعة ومعمقة تستهدف وصول جيش الاحتلال لكل محاور محافظة رفح، وهذا ما يعكسه الحديث عن نية تفكيك الألوية الأربعة الناشطة في رفح، وهي ألوية منتشرة على طول أراضي محافظة رفح من غربها إلى شرقها ومن جنوبها إلى شمالها، والحديث عن القضاء عليها وتفكيكها يتطلب التعمق إلى أقصى حد في المحافظة على غرار ما جرى في خانيونس.
يتطلب تنفيذ مثل هذا السيناريو الوصول إلى أجوبة حول العديد من النقاط، أولها مرتبط بمصير عشرات آلاف النازحين، وثانيها مرتبط بالتوافق مع مصر على عملية بهذا الحجم على حدودها وتضمُّنها بدرجة أساسية السيطرة مجدداً على محور فيلادلفيا الفاصل ما بين الأراضي المصرية وقطاع غزة، وهي نقاط عالقة لا يوجد صيغة واضحة حتى الآن لتجاوزها.
-عملية محدودة في الشريط الشرقي: كنوع من إظهار الجدية والالتزام بالتعهدات العلنية وعدم إظهار أي بقعة وكأنّها حصينة أمام جيش الاحتلال، يمكن أن يلجأ جيش الاحتلال لتنفيذ عملية عسكرية تستهدف التعمق لمساحة كيلو إلى كيلو ونصف على الحدود الشرقية لقطاع غزة، مما يُسهم في استكمال الشريط العازل الذي عمل جيش الاحتلال على تثبيته على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة، إذ عمل على تسوية كل المنشآت والمباني والأراضي الزراعية على امتداد كيلو متر مربع من الحدود الشرقية في كل أراضي القطاع، باستثناء رفح.
تُحقّق عملية مشابهة الهدف من استكمال إنشاء المنطقة العازلة الساعية لتأمين غلاف غزة من أي هجمات محتملة مستقبلا، إضافة لكسرها تابو عدم وجود أي محافظة في قطاع غزة بقيت محصّنة ولم تتعرض لاجتياح صهيوني مباشر، إلى جانب تحقيق مثل هذه العملية هناك ضغط كبير على المقاومة الفلسطينية عبر الضغط على المحافظة التي باتت مأوى للكم الأكبر من النازحين.
-عمليات خاطفة ومُركزة في عدة محاور داخل محافظة رفح: على غرار بعض العمليات في مناطق شرق محافظة غزة، يمكن أن يسعى جيش الاحتلال إلى شن عمليات مُركزة وخاطفة تستهدف التعمق بشكل رأسي داخل محاور محددة في محافظة رفح تشكّل عناوين الارتكاز للألوية الأربع التي تحدث عنها قادة الاحتلال، مما يُسهم في استنزاف هذه الألوية وكشف مكامنها وتسهيل استهدافها من الجو واستنزافها دون الاضطرار للتعمق الواسع داخل أحياء رفح بمدينتها ومخيّمها، إضافة لمجموعة من العمليات الخاصة التي يُمكن أن تستهدف تحرير أسرى الاحتلال (على غرار عملية تحرير أسيرين في مخيّم الشابورة وسط رفح قبل أيام) أو عمليات اغتيال/ اعتقال محددة بعمليات كوماندوز.
يُحقّق هذا الشكل من العمليات الهدف العملياتي الذي يسعى الاحتلال له عبر ضرب الألوية الناشطة في رفح واستنزافها واستهداف بنيتها التحتية، دون الاضطرار لإخلاء محافظة رفح من النازحين فيها، بل نقلهم من مربع إلى آخر عبر سياسة إخلاء “البلوكات” التي اعتمدها جيش الاحتلال في محاولة دعائية لتجاوز الضغط الدولي الناتج عن اخلاء محافظات بأكملها دفعة واحدة، في ما يتجاوز هذا السيناريو إغراق جيش الاحتلال في عمليات قتالية واسعة وتعرضه لضربات مؤثرة من المقاومة ووقوعه في كمائنها.
-احتلال محور فيلادلفيا والشريط الشرقي: أن يُنفّذ الاحتلال مناورة برية واسعة لاحتلال كل الشريط الحدودي شرق وجنوب رفح، بما يشمل احتلال محور فيلادلفيا ودفع النازحين إلى مناطق شمال رفح وجنوب خانيونس، إضافة لاستكمال المنطقة العازلة شرق رفح، ومن ثم تحويل هذين المحورين إلى رؤوس جسور لجيش الاحتلال لتنفيذ عمليات إغارة داخل أحياء محافظة رفح الصغيرة جغرافيا، حسب الحاجة.
يُحقّق هذا السيناريو عدة أهدافاً إسرائيلية أولها السيطرة على محور فيلادلفيا، وبالتالي، الإجهاز على أي عملية تهريب يدّعي أنّها تجري من تحت الأرض على طول الشريط الحدودي، ومن جانب آخر يتحكم بكل معابر ومنافذ قطاع غزة البرية وبأي اتصال لها مع العالم الخارجي، ويُطبق حصاره عليها بشكل كامل، كما يحقق له مواقع تمركز تسمح له بتنفيذ عمليات إغارة وتحقيق مبدأ حرية الحركة والقضم التدريجي لمحافظة رفح وحصار ألوية المقاومة داخل بقعة جغرافية صغيرة في ظل استمرار التمركز في محاور متعددة من محافظة خانيونس المحاذية لرفح من شمالها، كما يستكمل إنجاز المنطقة العازلة شرق رفح.
يحتمل كل سيناريو من السيناريوهات المذكورة العديد من جوانب الضعف والقوة، في ما تُشكّل الكتلة البشرية من السكان والنازحين العائق الأكبر في وجه غالبية السيناريوهات وهو ما يتطلب إيجاد صيغة واضحة لشكل التعامل معه والبحث عن وسيلة ومكان لإخلاء رفح من النازحين إليها مما يفتح الباب واسعاً أمام سيناريوهات التهجير القسري إلى خارج القطاع رغم كل العوامل التي تتعارض مع احتمالية نجاح هذا الخيار، في ما تنحصر الخيارات الأخرى لتعامل الاحتلال مع هذه المعضلة في الانسحاب من خانيونس ودفع النازحين إليها، أو السماح ولو جزئياً بعودة أهالي شمال قطاع غزة إلى أماكن سكنهم، ولكنّه خيار لا يريد الاحتلال منحه بشكل مجاني بل بحث عنه ضمن صفقة وفق شروطه ومعاييره.
السيطرة على محور فيلادلفيا، والتي تقع في صلب السيناريو الأول والرابع، لا يمكن أن تتمّ دون توافق وتفاهم مع المصريين، والذين يبدون حتى الآن موقفاً متصلباً رافضاً لمثل هذا الخيار، وتجاوز الاحتلال لخيار التوافق مع الطرف المصري على مثل هذه الخطوة يمكن أن يضعه في أتون المخاطرة بتوتير العلاقة مع المصريين، وهو ما لا يريده أي مكون من مكونات المشهد السياسي الصهيوني الذين يرون في الحفاظ على العلاقات الإيجابية مع مصر هدفاً استراتيجياً مهما، كما أنّ مثل هذه السيطرة ستعني حسم الاحتلال لخيار البقاء مطولاً في قطاع غزة وترسيخ نظام احتلال داخل القطاع وتحمُّل مسؤولية السكان داخل القطاع، وهو عنوان لا يُشكّل موضع إجماع في مجلس الحرب الصهيوني بل عنواناً خلافياً كبيراً مع الولايات المتحدة وعبئاً كبيراً لا يبحث الاحتلال عن تحمله.
يبقى السيناريو الثاني والثالث وإمكانية الدمج بينهما هما الأكثر رجوحاً من بين السيناريوهات المذكورة بما يتيح للاحتلال هامشاً واسعاً من المناورة والتعامل التدريجي مع مشكلة النازحين ودفعهم للانتقال من شرق ووسط رفح إلى غربه ومن ثم عبر الشريط الغربي لأي مكان آخر يمكن أن ينهي جيش الاحتلال عملياته فيه، ويسمح الدمج بين السيناريوهين إلى حد كبير بتصدير الاحتلال لدعاية تحقيق أهدافه الميدانية بالقضاء على ألوية المقاومة الناشطة في رفح وتفكيك بنيتها التحتية، واستكمال الشريط العازل شرق رفح، وإدعاء تنفيذ عملية تراعي المتطلبات الدولية بكونها “عملية مخطط لها” وفق التوصيف الأمريكي.