لقد عادت موضوعة حلّ الدولتين للتداول من جديد، من قِبَل الدول الكبرى: أولاً من قِبَل أمريكا وبريطانيا وفرنسا (أوروبا عموماً)، وثانياً روسيا والصين، وثالثاً من جهة الدول العربية، كما من جهة كثرة من الدول الإسلامية، والعالم ثالثية.
إن العودة "القويّة" من قِبَل هذه الدول، جاءت بعد طوفان الأقصى، وبعد الحرب البريّة التي تفوّقت فيها المقاومة على الجيش الصهيوني، وما زالت ماضية لتحقيق نصرها، فحلّ الدولتين محاولة لاستباق المرحلة القادمة، بعد الصمود الأسطوري للشعب في قطاع غزة، في مواجهته لحرب إبادة بشرية، تجاوزت المائة ألف بين شهيد وجريح، وتجاوزت في تدمير العمران، ربما الثمانين في المئة منه.
فهذه المعادلة تعززت، أيضاً، بانقلاب الرأي العام الغربي الذي راح يضغط على أمريكا والكيان الصهيوني والغرب عموماً، تجريماً للكيان الصهيوني ومناصريه، وتعاطفاً مع الشعب الفلسطيني وغزة، وصولاً إلى المطالبة من قِبَل جيل الشباب "بفلسطين حرة من النهر إلى البحر" (استفتاء أمريكي).
هذه المعادلة التي تشكلت خلال ما يقارب المئة والعشرين يوماً (أربعة أشهر) بعد اندلاع عملية طوفان الأقصى وتداعياتها، هي التي فرضت، بصورة خاصة على الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير خارجية بريطانيا ديفيد كاميرون التصريح بأن من حق الشعب الفلسطيني أن تكون له دولة، ومن ثم راحا يركزان على "حلّ الدولتين"، بما يضمن لدولة الكيان الصهيوني ("إسرائيل") كل ما تحتاجه من أمن وشرروط أمنية مستقبلية، مقابل دولة فلسطينية، بلا إشارة إلى "حدود" الرابع من حزيران 1967، وبلا حديث عن حلّ المستوطنات التي التهمت القدس والضفة الغربية. أي طرح بايدن وكاميرون لحلّ الدولتين، بخارٌ في الهواء.
أما من جهة أخرى، فإن العودة إلى الحديث عن حلّ الدولتين هنا، حمل معه تراجعاً ما عن مواقف لأمريكا وبريطانيا، ولكنه بقي مشدوداً إلى القرار الصهيوني والمفاوضات. أي جاء إلى الفشل نفسه الذي كان من نصيب حلّ الدولتين في المراحل السايقة، ولا سيما، ما بعد اتفاق أوسلو 1993.
إن التدقيق في الفشل السابق لحلّ الدولتين، يرجع إلى طبيعة المطالبة بدولة فلسطينية من جانب م.ت.ف، ومن ثم من جانب حلّ الدولتين، في الآن نفسه. كيف؟
لم يلحظ الجانب الفلسطيني أن المطالبة بدولة على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، أي على خطوط الهدنة لعام 1949، قد وضعها، عملياً، ومن حيث الأولوية، مكان هدف تحرير الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، وكان القرار 242، قد اعتبر تلك الأراضي محتلة (تحت الاحتلال) مع تركه ثغرة مقصودة في النص الإنكليزي أسقطت "أل" التعريف: "الانسحاب الكامل من أراض بدلاً من "الأراضي المحتلة". فاعتبرها الكيان الصهيوني غير ملزمة بالانسحاب الكامل، وإنما تدعو للتفاوض من أي أراض ينسحب منها، وأيّدته أمريكا وبريطانيا.
من يدقق في الصراع الداخلي الحاد الذي دار عندما طرح برنامج النقاط العشر، يجد الاعتراض عليه، قد اعتبره خطوة أولى للتنازل عن برنامج تحرير كل فلسطين، وعُدّ تمهيداً للدخول في مسار التسوية. وذلك بالرغم من أن البنود العشرة جاءت رفضاً للتسوية، أو للتنازل عن تحرير كل فلسطين.
وقد تقرّر عام 1974 في المجلس الوطني تبني برنامج النقاط العشر، واعتبار م.ت.ف "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني". وكان الرئيس المصري الأسبق أنور السادات وغيره وراء هذين القرارين، تمهيداً للتخلي عن المسؤولية العربية والمصرية عن القضية القضية الفلسطينية. وذلك ما دام هناك للشعب الفلسطيني، ممثله الشرعي والوحيد.
وهذا ما سمح له بعقد المعاهدة المصرية-الإسرائيلية، وبالانسحاب من سيناء، دون قطاع غزة، الذي كان في عُهدة مصر. وما كان يستطيع أن يفعل ذلك، دون مشروع الدولة على الأراضي المحتلة 1967، ودون اعتبار م.ت.ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
الأمر الذي سهّل، مع أسباب أخرى، إلى إعلان الدولة الفلسطينية في المجلس الوطني الذي عقد في الجزائر 1988، معترفاً بقرار 242، ومحدّداً لحدود الدولة على الأراضي المحتلة في حرب 1967: شرقي القدس، والضفة الغربية وقطاع غزة.
وهكذا أصبحت المطالبة بإقامة دولة فلسطينية، مركز الصراع، والشغل الشاغل للقيادة الفلسطينية، بدلاً من أن تكون الأولوية لتحرير الأرض ودحر الاحتلال ومقاومة الاستيطان. ولا تسل عن الأثمان السياسية التي دُفعت مقابل كل اعتراف، خصوصاً عندما انتقل إلى اعتراف الدول الغربية، وغيرها وغيرها.
وقد بدأت الضغوط في المقابل لتعترف المنظمة بحلّ الدولتين، أو بقبول شروط التسوية، أو الانضمام لهذا المحور أو ذاك عربياً ودولياً. وقد أثارت بعض الدول إشكالية العنف والمقاومة المسلحة، والاعتراف بالكيان الصهيوني.
يعني فتحت م.ت.ف على نفسها أبواباً كانت في غنى عنهاـ لو ركزت على مقاومة الاحتلال، وتحرير الأرض، وربطه بتحرير سيناء والجولان. وتركت موضوع الدولة إلى ما بعد تحرير الأرض.
وهنا لا مجال للمساومة على الأرض أو مكافأة الاحتلال. وهنا ثمة قانون دولي، وقرارات صادرة عن الجمعية العمومية تنزع عن الاحتلال والاستيطان أيّة شرعية. وتعطي الشعب الفلسطيني حقاً شرعياً باستخدام كل أشكال النضال، بما في ذلك المقاومة المسلحة.
باختصار كانت النتبجة خسارة نقاط القوّة الأساسية في هدف تحرير الأراضي المحتلة، ومقاومة الاستيطان والاحتلال. وقد ثبت أن طرح موضوع الدولة، قبل إنجاز هدف تحرير الأرض، يضع العربة أمام الحصان، كما فتح باباً للمساومات المختلفة مقابل الدولة. وكيف إذا كانت الدولة بعيدة المنال، أو ليست بمتناول أيديهم؟ أي أكلوا الحصرم قبل أن يصبح عنباً.
حاول البعض الردّ بالقول أن إقامة الدولة يشترط تحرير الأرض. ولكن هذا الاشتراط يعني أن لا أرض إذا فشل مشروع الدولة. وهو ما حدث. (تحرير قطاع غزة كان عن طريق الانتفاضة الثانية والمقاومة).
وبكلمة، يجب عدم الانخداع مرة أخرى بمناداة أمريكا وبريطانيا والدول الكبرى عموماً، بحلّ الدولتين. وذلك ليس استناداً إلى التجربة السابقة، بالرغم من أن الذي يجرّب المجرّب، يرتكب خطأ أسوأ من خطأ الذين سبقوه.
ولكن مع ذلك يجب أن يُسأل قادة أمريكا بالذات ما يلي:
ـ القيادة الصهيونية رفضت في الماضي، وترفض في الحاضر علناً حلّ الدولتين، وبأيّ شروط أمنية يضعونها. فهل ستمارس ضغوظاً عليهم تجبرهم على حلّ الدولتين، أم يطالبون بحلّ الدولتين، تاركين لهم الخيار. وخيارهم الرفض، فكيف يمكن للدول العربية أن تتبنى مشروع حلّ الدولتين بتنازل مجاني، وتنخدع مرة أخرى (مرات سابقة) بمشاريع وسياسات أمريكية، مستدرجة من الدول العربية التنازلات المجانية.
ـ كيف تطرحون (قادة أمريكا وبريطانيا) حلاً لدولتين، ولا تفعلون شيئاً لتفكيك المستوطنات في القدس والضفة: المستوطنات التي جعلت من "المسخرة" إقامة دويلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة في حزيران 1967.
طبعاً من العبث مطالبة الدول الغربية بطرح مثل هذه الأسئلة، ومن العبث أكثر، إذا أصبحت أمريكا طرفاً في أيّ حلّ. وهي التي شاركت في جريمة الإبادة التي تعرّض لها مدنيو قطاع غزة، وعلى مدار الساعة، وطوال 120 يوماً، والحبل على الجرار.
وخلاصة:
قضية فلسطين منذ نشأتها مع الاحتلال البريطاني لفلسطين، ولنقل منذ 1920 إلى اليوم كانت، ولم تزل، عصيّة على الحلّ: لا بالاحتلال المباشر، ولا بالمفاوضات، ولا بطرح أيّ حلّ، ولا بأيّة قرارات دولية، وبمختلف حالات موازين القوى.
وذلك لسبب بسيط كون المشروع الصهيوني يهدف إلى تملك كل فلسطين، واعتبارها، استناداً إلى أوهام وأساطير، بأنها "أرض إسرائيل"، ومن ثم اقتلاع كل الشعب الفلسطيني منها، وجعلها الوطن القومي ليهود العالم.
ولأن هذا المشروع لا يمكن أن يتحقق مهما امتلك من القوّة، وارتكب من جرائم الحرب، أو جرائم الإبادة والمجازر. وهذا ما أثبتته التجربة منذ أكثر من مائة عام، ومن ضمنها الخمسة والسبعون عاماً في ظل إقامة دولة الكيان الصهيوني. وبدعم شبه مطلق من قِبَل الدول الغربية، كما من عدد من الدول الكبرى والوسطى، وحتى الصغرى في العالم، في مقابل الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم، وما تيسّر من دول عربية وإسلامية، قليلة متحرّرة ومقاومة، على مراحل، وبتفاوت عبر تاريخ الصراع.
المهم اتسّمت التجربة تاريخياً بأن الممكن العملي والواقعي هو العيش ضمن حالة حرب ومقاومة وهدن مؤقتة، وحروب طاحنة مثلاً 1948 و1956، و1967 و1973، و1982، و2006، و2008/2009، و2012، و2014، و2021، وحربا 2022 و2023. وأخيراً الحرب الكبرى 2023 ـ 2024 حرب طوفان الأقصى، وحرب العدوان على قطاع غزة إلى اليوم.
ثم مرحلة المقاومات الفلسطينية إلى اليوم. ومقاومة احتلال جنوب لبنان، والانتفاضتان، وكتائب المقاومة في الضفة الغربية والقدس، والمواجهات في ساحات المسجد الأقصى.
هذا النمط من حالات القتال والمقاومة والاحتلالات والحروب والهُدن، هو الذي سيستمر، بعد آخر يوم من الحرب الدائرة في قطاع غزة. ويخطئ من يتصوّر إمكان التوصل إلى حلّ الدولتين، أو السلام في فلسطين.
أما في المنطقة العربية والإسلامية، بالنسبة إلى العلاقة مع الكيان الصهيوني، فليس ثمة علاقة غير سباق التسلح والتوتر والحروب، بالرغم من اختراقات تطبيعية أو انهزامية، لا مستقبل لها، بسبب عدوانية الكيان الصهيوني.
ولهذا فإن الحلّ النهائي لا يمكن إلاّ بتحرير فلسطين من المشروع الصهيوني، وما أقام من كيان، ومن ثم رحيل مستوطنيه إلى عواصم الغرب، أو أيّة عواصم تحبهم ويحبونها، حيث الأمن والازدهار والنفوذ الصهيوني.