يتضح باستمرار أنّ سلاح الولايات المتحدّة الأهمّ لفرض إرادتها على العالم هو هيبتها، هذه الهيبة لا أحد يشكّ في أنّها مُستمدة من قوّة الدولار والأسلحة الفتاكة ومن ميراث الاستعمار الذي صاغت به النخبَ التابعة لها في العالم، ولا ينبغي أن يفوت، والحالة هذه، ذلك البريق الذي تتبهرج به الهيبة، بلد الأحلام والحرية والفرص التي لا تنفد، بلد الثقافة الأخاذة التي تسلب العالم وعيه بالسينما والموسيقى ونمط الحياة الأمريكي، وتلفّ العالم بالتقنيات التي لا تكاد تتنافس إلا فيما بينها، فإن أطلّ أحد برأسه إلى ميدان المسابقة، يُحتوى بنعومة، أو يُحطم بلا رحمة.. هذه أمريكا المُرعِبة والمُحببة.
يمكن الجزم بأن أمريكا هي هكذا في قلوب النخب العربية الحاكمة، هلع يملأ أفئدة رجال تلك النخبة ويكاد يسقط بها تحت أقدامهم، وغرام بكل شيء فيها، ربما حتى بالديمقراطية التي لا يحبّون استنساخها في بلادهم؛ إذ يمكن للمرء أن يقع في غرام ما يكره، وانجذاب دائم إليها يُشعر بدرجة من قلّة الحيلة أقرب إلى الهوان، هوان التابع الأبديّ، هوان المربوط من قديم بحبل خفيّ، وحزن غامض إزاءها، حزن مفتول من تلك الخيوط الثلاثة: الهلع، والغرام، والهوان، كعاشقة لا تجد من سيّدها إلا الإذلال المزخرف بالغواية.
وإلا فأيّ شيء يَحُطّ تلك النخب عن الارتفاع ببلادها عمّا هي عليه؛ وهي تملك كلّ هذه المضائق والممرّات المائية والثروات الطبيعية والمواقع الاستراتيجية، بحيث تُحرز سيادتها وتحرّر إرادتها وتفرض نفسها على هذا العالم؟! فلتوضع هذه النخب اليوم في ميزان الحرب الغزّية، لتخرج منه بوزن صفريّ، وبقيمة مُستفادة من الانصهار في كفّ الإرادة الأمريكية.
الهيبة الأمريكية اختُبِرَت مرات عديدة في العالم، وليس ثمّة حاجة لاستدعاء انكشافها في غير المجال العربيّ والإسلامي، فقد كانت تلتقط أنفاسها وهي تجرّ خيبتها مُستترة بليل أفغانستان، في نهاية لاحتلال دام عشرين عاما؛ لم يتبق منه إلا السلاح الذي لم تحتمل خفة الهروب الليلي حمله، وإذا كان لَيلُ الأمريكي فجرَ الأفغاني، فقد كان في الحقيقة التاريخية بداية الفجر العالميّ، وبالأحرى بداية فجر الجنوب العالميّ، وكأيّ فجر فإنّه ينتزع ضوءه من الظُلمات الكثيفة، وفي التاريخ والجغرافيا، وفي الصراع والتدافع؛ يليق بكلّ انتزاع ذلك الألم الفَجريّ العنيف!
وكأيّ إمبراطورية مرتبكة بين القوّة الطاغيّة الظاهرة، وبين الإدراك المشوش لانحسار الهيبة؛ فإنّها لا تتعلّم من أخطائها. مأساة المفرط في قوته؛ في كون هذه القوّة تأتي على بصيرته، فالعيون الأمريكية وبقدر ما هي معزّزة بكلّ ما لم يخطر على قلب بشر من قبل من وسائل الرؤية البعيدة وأدوات الاستشعار؛ فإنّها مُغلّفة بالدولار، وكأنّ الرأس الأمريكي ممسوكا دائما بقبضات المتغطرسين الأثرياء، وعَمى القويّ في كونه لا يمكنه رؤية قوّة الضعيف، وهكذا تحاول أمريكا مرتبكة إخافة الفقراء في اليمن، الذين لا يملكون ما يخافون عليه، تماما كما اندفعت غريزة المحو الإسرائيلية لدفع الغزّي للاستسلام بعدما لم تُبِق له ما يخشى عليه. تَشبيه القويّ بالثور الهائج بديع، والحالة هذه.
ها هي الإمبراطورية لا تملك أيّ خيارات في دعمها لحرب الإبادة الإسرائيلية، إلا رمي الصواريخ على اليمن، فيردّ اليمنيون بضربة مباشرة لباخرة أمريكية. هل يفكر الأمريكان، حقّا، في غزو جبال اليمن؟! هل يفكرون في تجربة أفغانية، ولكن عربية هذه المرّة تُجهز على ما تبقى من الهيبة الأمريكية؟! ماذا فعلت قنابلهم الطُّنّيّة المخترقة للتحصينات في غزّة المُلقاة من طائراتهم أو من الطائرات الإسرائيلية؟! وماذا فعلت طائراتهم التجسسية في سماء غزّة وأجهزة تنصّتهم المحيطة بها؟! وماذا فعلت فرقهم الخاصة المساندة للقوّات الإسرائيلية المنهكة؟! وهذه غزّة، الضيقة المنبسطة صغيرة المساحة، فماذا لهذا الأمريكي في اليمن؟!
الأمريكي يرمّم هيبته في نفسه، وهو لا يكاد يصدق، فقط لأنّ قوته عمياء، أنّ غطرسته مشروع مفتوح للتمريغ الدائم في تضاريس الكرة الأرضية، في غاباتها ورمالها وجبالها ووديانها وبحارها، من فيتنام إلى العراق إلى أفغانستان إلى غزّة إلى اليمن.
وحدها النخب العربية الحاكمة التي تعتقد أنّ الأمريكي مطلق القدرة، نافذ الإرادة، ولكن الفقراء في أفغانستان والعراق واليمن وغزّة، لم يؤمنوا بذلك أبدا، ويستخدمون سلاحا غريبا عن تلك النخب، وهو الإيمان بأنّ القدرة المطلقة والمشيئة النافذة لله وحده، وأنّ الصراع هو بين الإرادات، لا بين القوى المادية. وصراع هذا حاله، لا يلزمه بعدَ الإيمان ذاك؛ إلا الاستعداد بالاستطاعة الممكنة، والصمود، ومن لم تكن له تجربة صمود تُعرَف، كيف له أن يعرف قيمة الصمود في صراع كهذا، وكيف له ألا يراه شعارا أو خطابة أو إنشاء فارغا؟!
من أدنى ظروف المكابدة التي يمرّ بها المرء في حياته الشخصية صعودا في واجبه العامّ واصطفافا إلى جانب فقراء العالم؛ لا شيء أثمن ولا أقوى من هذا الصمود، ينتزع به المرء إنجازه، أو في أقلّ الأمر يحافظ به على كرامته واحترامه لنفسه، لذلك، لا عجبَ أنّ بعض المثقفين والمعقبين على الشأن العام، وعلى هذه الحرب الدائرة، حتى من موقع الانتصار للمظلومين، لا تجد لهم في رؤاهم القلقة والمضطربة مكانة للصمود؛ قيمة ومعنى، فإدراك القيمة المادية للصمود لا يتأتى إلا من الإيمان والتجربة، والصمود في معناه العام هو رفض الاستسلام، لا ساعة المواجهة فحسب، بل في كلّ ساعة، وأن تتعلّم الوقوف بعد كلّ كبوة، والاشتعال بعد كلّ انطفاء، والبناء بعد كل هدم، والترميم بعد كلّ إتلاف.
ها هم الفقراء في غزّة قد ألقوا عود ثقابهم المشتعل على العالم الجافّ، وها هو صداهم في اليمن يثبت أنّ أمريكا تطبق على العالم بهيبة يمكن الوقوف إزاءها، وإظهار الصلابة نحوها، وها هي جنوب أفريقيا تضع "إسرائيل" في قفص الاتهام، ومعها ذلك العالم الذي يُسمّي نفسه بكلّ وقاحة، "العالم الحرّ"، إذ إنه حرّ في انتهاك بقية العالم واستضعافه وسرقته والتسلط عليه ونهب ثرواته، "العالم الحرّ" الذي يرى "إسرائيل" حرّة في إبادة من تشاء وتهجير من تشاء، في ضَربٍ من السياسة المُعدمة من كلّ منطق يمكن التفاهم معه، ومن كل خُلُق يمكن التعويل عليه.
ها هو المنطق، وها هي الأخلاق، في الجنوب فقط، حيث الضعفاء وحدهم، ولأنّهم ضعفاء فقط فوحدهم من يملك إرادة مواجهة الأقوياء، وإعادة التوازن، العقل والأخلاق، للعالم، ولأنهم فقراء فلا شيء يخشون عليه إلا إيمانهم وكرامتهم وإراداتهم.
هنا الجنوب.. الفرصة الوحيدة لعالم جديد.