قبل أن تبتّ محكمة العدل الدولية في لاهاي بأي قرار بشأن حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، سواء بالطلب المستعجل لوقف إطلاق النار الذي قد يستغرق أسابيع، أو بالنسبة لقضية الإبادة عينها التي ربما يتطلب حسمها شهوراُ طويلة وسنوات، يمكن القول باطمئنان إن جمهورية جنوب أفريقيا، ومنذ قبول دعواها وصولاُ إلى تقديم مرافعاتها، سجّلت عدة نقاط لصالح مبادئ العدالة والقيم الإنسانية ولصالح الشعب الفلسطيني، وضد جرائم الحرب وسياسات القتل والتهجير والتدمير واستقواء القوة الغاشمة على الضعفاء، وتصرّف إسرائيل من منطلق قناعتها بأنها سوف تفلت من العقاب في كل مرّة، وأنها فوق القانون وفي منأى عن أي محاسبة.
للصراعات السياسية جبهات عديدة ساخنة لا تقتصر على الميدان والحروب العسكرية والسياسية والإعلامية والنفسية، ثمّة جبهة قانونية لا تقل أهمية وأثراً، وإن كانت مثل هذه الحروب تحسم بالنقاط وليس بضربة قاضية. فإن جنوب أفريقيا التي انتصرت لإنسانيتها وتراثها ومبادئها، كما للشعب الفلسطيني وضحاياه، تكون قد سجّلت نقاطاً كثيرة في معركة البشرية ضد أبشع أنواع الاستعمار والاحتلال والتمييز العنصري.
لعلّ مراقبين ومتابعين كثيرين يتساءلون ويتعجّبون ويستنكرون عدم تقديم أي دولة عربية أو إسلامية الدعاوى والشكاوى ضد إسرائيل في المحاكم الدولية (محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومحاكم الاختصاص الجنائي لبعض الدول وفق قوانيها الوطنية تجاه جرائم الحرب). يمكن تقديم أسباب وأعذار كثيرة، منها الضعف وما يشبه التواطؤ والخوف من العقوبات وقيود اتفاقيات التطبيع، وربما وجود ملفّات مشينة لهذه الدول في قمع خصومها وكبت حرية شعوبها تُحرجها عند المثول أمام القضاء الدولي أطرافاً مُشتكية. ولكن ربّ ضارّة نافعة، مع أن التأجيل وعدم استخدام أدوات القانون الدولي المتاحة جاءا على حساب حياة (ومعاناة) ملايين الفلسطينيين التي كان يمكن تجنّبها وتوفيرها. ولكن أن تكون الدعوى مرفوعة من جنوب أفريقيا فذلك يمنحها قوة أدبية وأخلاقية هائلة، نظراً إلى تاريخ هذه الدولة ذات المكانة المرموقة على مستوى العالم، وصاحبة السجلّ الناصع في النضال ضد جرائم الإبادة والتمييز العنصري، الوفيّة لتراث القائد نيسلون مانديلا الذي وصل إلى مكانةٍ لم يصل إليها أيٌّ من القادة في العصور الحديثة (منتخب كرة القدم لهذه الدولة يسمّونه فريق أبناء مانديلا وليس أسوداً وأفيالاً وصقوراً ونسوراً كشأن باقي دول القارة).
الدعوى، إذن، منزّهةٌ عن الأغراض والعصبيات القومية والدينية، وبعيدة عن الأطماع والحسابات الفئوية والإقليمية، وهي تنطلق من الضمير الإنساني والالتزام بجوهر قيم الحق والعدالة ومبادئ القانون وحقوق الإنسان، وذلك ما يمنحها قوة مضاعفة في مواجهة عالم قاسٍ ونظام دولي مجحف تسوده لغة المصالح والحسابات الباردة.
أعادت الدعوى تسليط الأضواء على ما يجري في فلسطين، وفي غزّة على وجه الخصوص، من فظائع وجرائم يفترض بها أن تحرّك العالم والضمائر الإنسانية فتدفعها للتدخل من أجل الحرب، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل. تقاطر خمسون زعيماً، ومنهم الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس وملوك ورؤساء عرب إلى باريس، للاحتجاج على جريمة في مجلة ساخرة، وقعت في يناير/ كانون الثاني 2015، وقتل فيها 12 فرداً من فريق التحرير، لكنهم عجزوا عن إدخال شاحنات الإغاثة الإنسانية إلى قطاع غزّة، فضلاً عن فشلهم في استصدار قرارٍ ملزمٍ بوقف الحرب واستهداف المدنيين. زار معظم قادة الغرب إسرائيل لإظهار التضامن معها، لما جرى في 7 أكتوبر، وهو ما اعتبرته دولة الاحتلال دعماً لحقّها المزعوم في الدفاع عن النفس، لكن أحداً من هؤلاء لم يتحرّك رفضاً لما يجري في غزّة من جرائم ومجازر يومية، إلى الدرجة التي اعتاد فيها الرأي العام الدولي والعربي والإسلامي هذه الأخبار، حتى بات يسلّم بها قدراً محتوماً على الفلسطينيين، ويجرى التعامل معها مثل أي حدثٍ يوميٍّ اعتياديٍّ يمكن لحياة البشر والدول أن تستمر وكأن شيئاً فظيعاً واستثنائياً لم يكن.
جاءت دعوى جنوب أفريقيا لتهزّ العالم، ولتوقظه من سباته وبلادته، وتكسر صمته وسكونه واستسلامه، ولتؤكّد أن ما جرى ويجري من جرائم ليست أموراً اعتيادية، ولا يمكن المرور عليها، فجرائم الإبادة لا تستهدف الضحايا وحدهم، بل هي أيضاً موجّهة ضد الإنسانية جمعاء، والسكوت عليها يعني العودة بالبشرية آلاف السنين إلى الوراء، واعتماد شريعة الغاب أساساً مقبولاً للعلاقات الدولية.
... تستخدم كل الدول قوى خشنة وأخرى ناعمة لتحقيق أهدافها، أما إسرائيل فانفردت منذ إنشائها باعتماد المذابح والاغتيالات أدوات رئيسة ضمن ترسانة الأدوات الخشنة التي تملكها، كالحروب والحصار والاغتيالات والمؤامرات. ولا تعد المذابح وسيلة نافرة أو استثنائية في تاريخ إسرائيل التي قال رئيس وزرائها الأسبق، مناحم بيغن، إنه لولا دير ياسين (المذبحة) لما قامت دولة إسرائيل. ويعدّد الباحثون والمؤرّخون نحو مائة مجزرة متوسطة (عشرات الضحايا) وكبيرة (مئات الضحايا) ارتكبتها إسرائيل خلال النكبة لترويع الفلسطينيين وتهجيرهم. ربما نعرف الشهيرة منها، كمجازر دير ياسين والطنطورة والدوايمة واللد، وكل هذه المجازر تناقلها الناس شفاهة، ووثقت الصحف والإرساليات الدولية جوانب منها، لكن معظم المجازر لم يوثّق وظلّ في نطاق السير والحكايات التي يرثها الأبناء عن آبائهم وأجدادهم. واصلت إسرائيل ارتكاب المجازر، حتى بعد أن تحوّلت العصابات إلى دولة، ركّزت هذه المجازر على الشعب الفلسطيني، ولكنها اتسعت لتشمل دولاً عربية عديدة، منها مصر والأردن ولبنان وسورية وتونس، وامتدّت على طول العقود الثمانية الماضية.
تجري هذه المجازر حالياً بالبثّ الحي والمباشر، ويفاخر بها الضبّاط والقادة الإسرائيليون، ويحضّ على ارتكاب مزيد منها الساسة والمحللون، ويراها العالم بالصوت والصورة في وقت حدوثها، ويعجز عن التدخّل والتأثير. دفع ذلك كله إسرائيل إلى الاقتناع بأنها ستنجو وتفلت من العقاب كما في كل مرّة، وأن الحماية الأميركية المطلقة توفر لها دائماً فرص ارتكاب مزيد من المجازر. مع قبول الدعوى الجنوب أفريقية، ظهرت إسرائيل كمن وقع في شرّ أعماله، فتغيّرت لهجة الإعلام وكبار المسؤولين الإسرائيليين، وراحوا يوبّخون الوزراء الأغرار والجهلة الذين يطلقون التصريحات الداعية إلى الإبادة الجماعية.
أشاد متابعون وقانونيون كثيرون مختصون بقوة الملف الذي قدّمته جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية، لجهة مهنيّته وشموله، واستناده إلى وقائع مثبتة ودامغة، من بينها شهادات كثيرة مدعّمة بالأدلة والبيانات للمنظمّات الدولية ووكالات الأمم المتحدة العاملة في قطاع غزّة، والتي كانت تتابع مجريات الحرب يومياً، وتُصدر بيانات وإحصائيات يومية، وتحذّر من هول الكارثة قبل وقوعها. وعزّزت بلاد مانديلا دعواها بتصريحاتٍ موثقة لكبار المسؤولين الإسرائيليين، من رئيس الدولة ورئيس الوزراء إلى بقية الوزراء وقادة الجيش ونواب الكنيست، مروراً بصنّاع الرأي العام من صحافيين ومثقفين ومحللين سياسيين وجنرالات احتياط يُطلّون على المشاهدين في كل ليلة، ليحرّضوا على مزيد من الجرائم، وصولاً إلى الضباط والجنود الأفراد الذين يقومون بترجمة "أمينة" لتوجيهات قياداتهم، ويوثِّقون، بكل فخر واعتزاز، ما يقومون به من فظائع تشمل البحث عن أطفال فلسطينيينٍ رضّع لقتلهم والتنكيل بالأسرى المدنيين، والتمتّع بمشاهد نسف البنايات السكنية مع التصفيق والتهليل.
أعدّت إسرائيل هي الأخرى عدّتها جيداً، وأسندت رئاسة الفريق القانوني إلى واحد من ألدّ خصوم نتنياهو، وهو الرئيس السابق للمحكمة العليا أهارون باراك (88 عاماً) وهو ناجٍ من المحرقة، وقد كرّس خبراته القانونية وعلاقاته الدولية للدفاع عن ملفّ إسرائيل... وعلى الرغم من أهمية الملفات القانونية وطريقة إعدادها ودعمها بالبيّنات والوثائق، إلا أن جوهر المواجهة هو بين قضية عادلة تتمثل في القتل اليومي لشعب محاصر، ومخنوق وخاضع للاحتلال ومحروم من أبسط حقوقه الإنسانية والوطنية، ودولة نووية تتمتع بواحد من أقوى جيوش العالم، وتحظى بحماية مطلقة من أكبر قوة عسكرية واقتصادية. إنها، بشكل أو بآخر، مواجهة بين قوة الحق والحق الذي تريد القوة وآلات القتل الغاشمة أن تنتزعه لنفسها في هذا العالم الظالم. ولهذه المعادلة جانب آخر، ظنّه بعضهم مجالاً للطعن في دعوى جنوب أفريقيا، بزعم أن لا صلة لها ولا مصلحة مباشرة بهذه الدعوى، لكن أيّ مطالعة لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها تنصّ، بشكل صريح لا لبس فيه، على واجب الدول الأعضاء في منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها، دونما أي صلة بين العضو صاحب الدعوى (ومصالحه) والجريمة، التي هي في جوهرها موجّهة ضد الإنسانية جمعاء، ومَن أحرص على أبناء مانديلا وأحفاده من الاضطلاع بهذا الدور؟!