غزة - قدس الإخبارية: مع حلول مساء الثالث عشر من نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، لم يتأخر محمد مهدي (35 عامًا) بالخروج من منزله الواقع بحي النصر بمدينة غزة تلبيةً لطلب طفلته دنيا (11 سنة) بشراء قطعة بسكويت وبعض المستلزمات الأخرى من إحدى البقالات، فسار وسط السواد الحالك تحت مرأى من طائرات الاحتلال الحربية بدون طيار التي لم تفارق سماء المدينة مع بدء التوغل الإسرائيلي البري لحي النصر بالمدينة.
رافق محمد - الذي يسكن بجوار مستشفى "مهدي" للنساء والولادة - نجله زين (9 سنوات) الذي أصر على اللحاق بوالده، ولحظة عودتهما من البقالة بعد شراء الأغراض والمستلزمات وقطعة "البسكويت" التي طلبتها طفلته، دوى صوت انفجار كبير في المنطقة بعد استهداف طائرات الاحتلال منزلا قريبا منه أحدث القصف دمارا واسعا بالحي طال المستشفى الذي استشهد بداخلها نحو 13 فردا بينهم الطبيب باسل مهندي وشقيقه الطبيب رائد وزوجته وأولاده الستة، واستشهد عدد من الجيران والمارة.
وقف محمد مهدي ونجله المرتعد زين فوق منزله الذي تحول أيضًا لركام بعيون صدمة فكانا سيكونان تحت الردم لو لم يخرجا من المنزل، مع قدوم طواقم الدفاع المدني التي بدأت بأعمال إزالة الردم وانتشال جثامين الشهداء وإسعاف المصابين، كان المشهد صادمًا له. ألقى ظرف الحاجيات من يده فوق الركام وانتهى مخطط العائلة بالعيش لحظات أسرية علها تُنسي الأطفال لحظةً من العدوان، وتفرق شملها.
غبار كبير
لم يتوقف زين من البكاء والمناداة على شقيقته وأمه، وفي كل مرة كان صوته يرتد إليه خاويًا فكان حجم الركام كبيرًا، أدرك الطفل ووالده استحالة وجود فرصة لنجاتهم.
يستعيد مهدي تلك اللحظات لشبكة "قدس" وبالكاد استطاع التماسك لرواية القصة لشدة الحزن الذي يحتل قلبه قائلاً: "امتلأت المنطقة بالغبار، وبعد دقائق رأيت الناس تخرج وتركض بالشارع، وجثامين الشهداء ملقاة على الأرض. لم أستطع تمالك نفسي من شدة الصدمة التي عشتها فنقلت إلى المشفى وبقيت ابنتي وزوجتي تحت الردم".
يقف مهدي أمام مدخل مستشفى بمحافظة رفح يحاول شحن بطارية هاتفه المحمول بعد رحلة نزوح طويلة سبقها المكوث بمستشفى "النصر" للأطفال لعدة أيام، يتوقف في الحديث عنها قائلا: "عشنا لحظات صعبة أخرى، فكانت معظم عائلتي هناك من أمي وأخوتي وكان القصف عنيفا يتساقط حولنا حتى تقدمت الدبابات والآليات العسكرية الإسرائيلية وقامت بمحاصرة المستشفى ثم اقتحامه".
خلال وجوده بمستشفى "النصر" عاش لحظات عصيبة تحضره تفاصيلها "لم نكن نستطيع النوم لا بالليل ولا بالنهار من شدة القصف والأحزمة النارية المتواصلة التي لا يستطيع أي شخص تحملها.
رحلة نزوح
طلب الجنود من النازحين والمرضى في المستشفى الخروج وهم يحملون حقائب فقط بدون أغطية وفرشات، وسلكوا مسارًا من شارع العيون مشيا على الأقدام مرورا بشارع الجلاء ووصولا لشارع صلاح الدين إلى أن وصلوا مخيم "البريج" بعد وادي غزة وهناك استطاعوا الركوب بشاحنة أقلتهم نحو مدينة رفح جنوب القطاع في مشهد عايش فيه تفاصيل مماثلة في رحلة النزوح والهجرة إبان النكبة الفلسطينية عام 1948.
"أثناء النزوح رأينا حجم الدمار الكبير الذي خلفته طائرات الاحتلال الإسرائيلي، وعمارات ومربعات سكنية سويت بالأرض وشوارع طالها الدمار وعندما اقتربنا من نقاط تمركز آليات وجنود الاحتلال عند شارع صلاح الدين بدؤا بإطلاق النار في الهواء وحولنا لإخافتنا" تتحرك أمامه بعض المشاهد التي رآها، بينما كانت الساعة السابعة صباحًا وهو يحاول شحن هاتفه.
منذ عدة أسابيع يعيش مهدي حياة صعبة في خيمة داخل أحد مراكز الإيواء بمحافظة رفح، ما يزيد صعوبتها فقد طفلته وزوجته، فيعش برفقة نجله زين ونحو 13 فردا من عائلته، يحاول التأقلم مع واقع لم يتصور أن يعيشه في أسوأ أحلامه: "الحياة داخل مركز الإيواء صعب، فلا غذاء متوفر ولا مياه إلا بصعوبة، نعاني من البرد والاكتظاظ وغياب الكهرباء والكثير من الأشياء الصعبة، لكننا نحاول الصمود والبقاء".
في كل مرة يجلس بعزلة عن الآخرين وهو ينظر للفضاء الواسع أمامه، يأتيه صوت طفلته "دنيا" وهو يستحضر ملامحه حينما طلبت منه قطعة "البسكويت".