بعد أكثر من 70 يوماً على الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزّة، تتبلور استنتاجات عديدة ستحكم الوضع في المنطقة والعالم أعواماً. وكما قال مؤرخون من قبل، فإن الأحداث المتسارعة في أثناء الثورات والحروب تُحدِث في أيام تغيّرات تستغرق في العادة سنواتٍ في فترات الركود. وما ارتكبته إسرائيل في هذه الأيام السبعين، وما ترتكبه فاق وحشية جرائم النكبة عام 1948، إذ نفّذت وتنفذ بالتوازي ثلاث جرائم حرب، العقوبات الجماعية، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية. وأدى ذلك إلى استشهاد ما يصل إلى 26 ألف شهيد إذا حسبنا من هم ما زالوا تحت الأنقاض، وبينهم ما لا يقل عن عشرة آلاف طفل، وإلى جرح أكثر من خمسين ألفاً، جزء كبير منهم معرّض للشهادة، بسبب خطورة جراحهم، وعدم توافر العناية الطبية اللازمة نتيجة الحصار الإسرائيلي.
أفرزت تداعيات العدوان الإسرائيلي نتائج عديدة، منها:- أولاً، إن التهجير والتطهير العرقي هو السياسة الرسمية لإسرائيل في إطار استمرارها في مشروع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الذي أُنشئت على أساسه وكنتيجة له في 1948، وتواصل تنفيذه اليوم عبر الاستيطان وتوسيع الاحتلال الكامل ليشمل قطاع غزّة.
ثانياً، إن إسرائيل ترفض أي حل وسط مع الفلسطينيين، ولا تقبل بما يسمّى "حلّ الدولتين"، وتعتبر كل فلسطين التاريخية أرضاً لليهود، وحق تقرير المصير فيها محصور باليهود فقط.
ثالثاً، إن "عملية السلام" واتفاقية أوسلو كانتا من وجهة النظر الإسرائيلية وسيلة لكسب الوقت لاستكمال مشروع الاستيطان والتهويد للضفة الغربية.
رابعاً، إن نجح الاحتلال في تنفيذ التطهير العرقي الكامل لقطاع غزّة، سينتقل لتنفيذه في الضفة الغربية، وسيحاول افتعال مواجهاتٍ واسعة مع الفلسطينيين لتبرير ذلك.
خامساً، لم يأتِ ما حدث في 7 أكتوبر من فراغ، بل من خلفية التطهير العرقي 75 عاماً، واحتلال عمره 56 عاماً ومنظومة أبارتهايد وتمييز عنصري، ولم يكن رد الفعل الإسرائيلي وليد الحدث، بل كان تنفيذاً لمخطّط مسبق.
سادساً، أعاد ما جرى خلال الشهرين الماضيين شحن أجيال فلسطينية بكاملها بالوعي السياسي والروح النضالية الكفاحية، وشحن جيلاً عالمياً كاملاً من الشباب بالوعي بالقضية الفلسطينية والانضواء في حركات التضامن معها بصورة لا مثيل لها منذ حركة التضامن مع شعب جنوب أفريقيا ضد نظام الأبارتهايد، وشمل ذلك جيلاً كاملاً من الشباب الأميركي وجزءاً من اليهود الأميركيين.
سابعاً، البنيان السياسي الفلسطيني بحاجة إلى إصلاح جذري وشامل، بعد أن فقدت السلطة الفلسطينية المهيمنة على منظمة التحرير التأييد الجماهيري، وذلك لسلبيّتها وتقصيرها خلال العدوان على قطاع غزّة، ويمثل ضعفها خطراً على مستقبل القضية الفلسطينية، لهشاشة قدرتها على مقاومة الضغوط الخارجية ومحاولات أطراف خارجية بقيادة الولايات المتحدة لفرض الإملاءات عليها في ما تسمّى ترتيبات اليوم الثاني في غزّة. وذلك كله يؤكّد ضرورة الوحدة لرفض الوصاية الخارجية على الشعب الفلسطيني، أو مصادرة حقّه في تمثيل نفسه، أو المسّ بحقّه وحده في اختيار قياداته عبر الانتخابات الديمقراطية الحرّة.
ثامناً، فشل التطبيع الإسرائيلي العربي في تهميش القضية الفلسطينية وتصفيتها.
على صعيد سلوك الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الغربية، التي اصطفت إلى جانب دولة الاحتلال والاضطهاد العنصري، فقد تبلورت الاستنتاجات الآتية:-
أولاً، كان سكوت العالم الغربي عن استمرار الاحتلال 56 عاماً وعن التوسّع الاستيطاني والغطرسة الإسرائيلية السبب الرئيسي في ما جرى في 7 أكتوبر. وأظهرت المنظومة الغربية الرئيسية انحيازاً مطلقاً لإسرائيل، بل شاركت بعض دولها، وتحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا، بجنودها وخبراتها وأسلحتها وطائراتها وجسرها الجوي في العدوان على الفلسطينيين.
ثانياً، جنّدت إسرائيل بتواطؤ غربي مشاعر الحقد والانتقام الإسرائيلية مع أسوأ التوجّهات الرجعية في العالم لشنّ حملة لنزع إنسانية الفلسطينيين، بالجمع بين العنصرية الإسرائيلية والعنصرية ضد شعوب الجنوب، والإسلاموفوبيا وأيديولوجية تفوّق العرق الأبيض، والاتجاهات الفاشية الجديدة، ووجدت إسرائيل نفسها في سريرٍ واحدٍ مع أكثر الأنظمة الرجعيّة تخلفاً ويمينية وفاشية.
ثالثاً، أحدثت المواقف الغربية شرخاً عميقاً ستكون له آثار بعيدة المدى مع شعوب العالم العربي والدول النامية، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
رابعاً، اتضح أن كل الدعايات الأميركية والغربية عن حقوق الإنسان والديمقراطية واحترام القانون الدولي وحرية الرأي والتعبير مجرّد هراء، عند مقارنة ازدواجية المواقف بين ما جرى في كوسوفو وأوكرانيا وما جرى في فلسطين. بل وصل الأمر بدول غربية إلى تبنّي مكارثية جديدة ضد كل ما هو فلسطيني، علماً كان، أو مظاهرة، أو كوفية، أو موقفاً صادقاً لغربيين أملته عليهم ضمائرهم الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني حتى صُنّف كل تأييد للفلسطينيين أو انتقاد للظلم ضدّهم بأنه "لا سامية".
خامساً، استخدم العدوان الإسرائيلي، كما الحرب الأوكرانية لخدمة مصالح المجمع الصناعي – العسكري الأميركي وتحقيق مليارات الدولارات من الأرباح على حساب دماء الشعب الفلسطيني.
سادساً، وجّه سلوك الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى المتواطئة مع العدوان الإسرائيلي وجرائم الحرب التي ارتكبت ضد المدنيين في قطاع غزة رسالة خطرة للغاية، أن العالم لا يحكمه القانون الدولي، بل شريعة الغاب. ومن يملك القوّة يقرّر المسار، وسيكون لهذا السلوك تأثيرٌ خطيرٌ في مناطق عديدة مثل جنوب شرق آسيا وأوروبا نفسها.
سابعاً، إن العقلية (mind set) التي سمحت سابقاً بارتكاب جريمة الهولوكوست ضد اليهود، والممارسات اللاسامية في أوروبا، واضطهاد الضعيف، هي العقلية نفسها التي تسكت اليوم، وتتواطأ مع "الهولوكوست" الجديد الذي يمارس ضد الشعب الفلسطيني.
ثامناً، التأثير الهائل لمواقف الشعوب التي هبّت في ثورة عالمية حقيقية لنصرة القضية الفلسطينية، وأجبرت حكومات عديدة على تغيير موقفها، كما جرى في فرنسا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، ويذكّرنا ذلك بتقصير منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في مواصلة العلاقات مع حركات التحرّر العالمية والمجتمعات المدنية والأحزاب والنقابات، لأنها انشغلت فقط بالعلاقات الدبلوماسية وأصبحت تتصرّف كهيكل دبلوماسي غير قادر على التأثير.
تاسعاً، إن مشروع السلطة الفلسطينية المسمّى نهج أوسلو واتفاق أوسلو فشل فشلاً ذريعاً، لأنه بُني على مفهوم استراتيجي خاطئ، بأن إسرائيل تقبل حلاً وسطاً، وبأن الولايات المتحدة تستطيع أن تكون وسيطاً للسلام.
عاشراً، باستثناءات قليلة، لم يستطع العالم العربي والإسلامي القيام بالدور المطلوب منه، وأظهر عجزاً مريعاً، لم يستطع أن يتحدّى إسرائيل، ولو بإرسال قافلة إنسانية لاختراق العقوبات الجماعية المفروضة على الشعب الفلسطيني، ولذلك آثار إستراتيجية خطيرة لظهور هذه الدول عاجزة عن الدفاع عن مصالحها.
وفي الخلاصة، أصبح واضحاً أن السلام لن يسود في هذه المنطقة من دون تخلي إسرائيل عن طابعها الاستعماري الاستيطاني الإحلالي، واعترافها بحقوق الشعب الفلسطيني الكاملة، بما في ذلك حقّ عودة اللاجئين القدم والجدد إلى ديارهم التي هجّروا منها. وأن أحداً لا يملك، ولن يملك، حقّ فرض الإملاءات على الشعب الفلسطيني أو من يدير شؤونه. الشعب الفلسطيني وحده الذي يملك حقّ اختيار قيادته بالوسائل الديمقراطية.