شبكة قدس الإخبارية

الهدنة وصفقة الأسرى الجزئية: دلالات ومآلات

الهدنة-وصفقة-الأسرى-الجزئية-768x402
أحمد الطناني

 

جولات طويلة من المفاوضات غير المباشرة، قادها الوسطاء لأسابيع، للوصول إلى اتفاق جزئي للتهدئة في قطاع غزة، تتخللها صفقة جزئية لتبادل الأسرى بين المقاومة والاحتلال، تتضمن إطلاق سراح الأسرى القاصرين وكبار السن لدى المقاومة، مقابل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال من النساء والأطفال.

نجحت المقاومة في فرض العديد من الشروط على الاحتلال، شملت إيقاف العمليات العدوانية، وإيصال المساعدات لكل قطاع غزة، وبشكل خاص محافظات شمال القطاع التي ترزح تحت حصار شديد جداً منذ بداية الحرب الصهيونية، إضافة لفرض شرط انسحاب الطيران المعادي من أجواء القطاع، وبشكل خاص الطيران المُسيّر والاستطلاعي، لضمان سلاسة حركة المقاومة للوصول لأسرى الاحتلال لدى المقاومة، إضافة لضمان سلامة حركة السكان خلال أيام الهدنة الأربعة القابلة للتمديد.

أكثر من 48 يوماً من الحرب الصهيونية على قطاع غزة، بمجازر لا تتوقف، كانت كفيلة بإقناع العالم أجمع، وقادة الاحتلال أنّ قرار قيادة المقاومة بأنّ السبيل الوحيد لإطلاق سراح أسرى الاحتلال هو صفقات التبادل، وأنّ الرهان على خيارات أخرى هو رهان لا أفق له، وأنّ أطنان المتفجرات لن تنجح في النيل من عزيمة قيادة المقاومة.

فإنّ خيار عقد صفقة جزئية يحمل في طياته أهدافاً ذات بُعد استخباراتي يهدف عبرها لالتقاط أي خطأ قد تقع فيه قيادة المقاومة أو مفاصل التأمين للأسرى خلال إتمام مراحل الصفقة

دلالات يحملها الوصول للهدنة والصفقة

يعكس الوصول إلى الهدنة المؤقتة في قطاع غزة مجموعة مهمة من الدلالات حول مجرى الحرب الصهيونية على قطاع غزة، ومجريات معركة “طوفان الأقصى” التي تخوضها المقاومة في مواجهة العدوان الصهيوني المستمر، وأهمها:

 

انكسار الاندفاعة الإجرامية لقادة الاحتلال: يعكس الوصول للهدنة وصفقة لتبادل الأسرى الدلالة الأوضح على الانكسار الكبير في الاندفاعة الإجرامية لقادة الاحتلال، التي انطلقت بأعتى قدرات الكيان الصهيوني الحربية مستهدفةً قطاع غزة بأطنان المتفجرات، موقعةً عشرات الآلاف من الفلسطينيين ما بين شهيد وجريح، حيث أجبر الصمود الفلسطيني الأسطوري قادة الاحتلال على مراجعة جدوى حساباتهم وفرملة الاندفاعة الإجرامية، والإقرار الضمني بفشل استراتيجية الإجرام الدموي في دفع قطاع غزة ومقاومته إلى الانهيار وفشل مخططات التهجبر.

التراجع في موقف “الصقور” وقادة الجيش: منذ نجاح المقاومة في توجيه الضربة الاستراتيجية لجيش الاحتلال بعملية “طوفان الأقصى” وتحييد فرقة غزة، تبنّى قادة جيش الاحتلال ومعهم مجموعة من الجنرالات في المستوى السياسي والأمني موقف الهجوم الكاسح حاملين شعار “القضاء على المقاومة” والخوض في الحرب لأبعد مدى، إلا أنّ مجريات الميدان وضعت مجلس الحرب الصهيوني أمام واقع مغاير، أجبر أصحاب هذا الموقف على التراجع والخضوع لحسابات العقل والمنطق، فما بين قطع المتحدث باسم جيش الاحتلال الطريق على المستوى السياسي في الوصول لتهدئة قبل أسابيع وتأكيده رفض كل أطروحات التهدئة، إلى إعلانه عن الالتزام بقرارات المستوى السياسي والجاهزية للتعامل مع الهدنة، تراجع كبير فرضته الوقائع الميدانية وصمود المقاومة وأهالي القطاع.

فشل الخيار العسكري في تحرير الأسرى لدى المقاومة: يعكس الوصول للصفقة الجزئية، وصول قادة العدو لقناعة حول عدم جدوى الخيار العسكري والعمليات الحربية في تحرير أي من أسرى الاحتلال لدى المقاومة، إذ أنّ فشل الاحتلال في تحقيق نتائج عملياتية حقيقية على الأرض بعد 48 يوماً من العدوان، وأنّ الخيار الوحيد لإطلاق سراح الأسرى هو صفقات التبادل.

فشل استخباراتي في الوصول لقيادة المقاومة والأسرى: يعكس رضوخ الاحتلال قبول صفقة جزئية، إلى ادراكه لحجم الفشل الاستخباراتي في استهداف قيادة المقاومة والوصول لأسراه المحتجزين لديها، وبالتالي، فإنّ خيار عقد صفقة جزئية يحمل في طياته أهدافاً ذات بُعد استخباراتي يهدف عبرها لالتقاط أي خطأ قد تقع فيه قيادة المقاومة أو مفاصل التأمين للأسرى خلال إتمام مراحل الصفقة، مما يؤمّن للاحتلال تحديثاً لبنك الأهداف لاستهدافات جديدة بعد انتهاء أيام الهدنة.

تماسك منظومات القيادة والسيطرة للمقاومة: تعكس تفاصيل التبادل وإدارة ملف أسرى الاحتلال لدى المقاومة، والتكامل ما بين الواقع الميداني والمستوى السياسي للمقاومة، تماسك منظومات القيادة والسيطرة للمقاومة، وسلامة خطوط الاتصال وصمودها في وجه الضربات الصهيونية المكثفة على مدار شهر ونصف من العدوان.

القدرة على التفاوض وفق شروط ومحددات المقاومة: تعكس تفاصيل اتفاق التبادل، والتسريبات حول مجرى التفاوض خلال الأسابيع السابقة، قدرة المقاومة على التفاوض من منطلق القوي الصامد، وقد تجلى هذا بشكل واضح في انتزاع المقاومة لمجموعة من التفاصيل المهمة التي ما كان الاحتلال ليقبلها إلا مرغماً أمام صلابة موقف قيادة المقاومة الفلسطينية.

من يمتلك قناعة أنّ “القضاء على المقاومة” هو هدف قابل للتحقق، لن يرضخ لعقد صفقات مع هذه المقاومة

مآلات الحرب على غزة في ضوء الهدنة والصفقة

في ذات السياق وإلى جانب مجموعة الدلالات التي حملها الوصول إلى اتفاق الهدنة المؤقتة والصفقة الجزئية لتبادل الأسرى، تترك هذه الصفقة انعكاساتها على مجريات الحرب على قطاع غزة، ومآلات معركة “طوفان الأقصى” وتتمثّل أبرز تجلياتها في التالي:

تدعيم الجبهة الداخلية للمقاومة وتعزيز صمود المجتمع: يمثّل الوصول للهدنة المؤقتة فرصة مهمة للمجتمع الفلسطيني في قطاع غزة والجبهة الداخلية للمقاومة لالتقاط أنفاسها ولملمة جراحها، في ما سيمثّل وصول المساعدات والوقود لمختلف محافظات القطاع، وبشكل خاص المحافظات الشمالية عامل مهم في تدعيم صمود المواطنين وتعزيز تماسكهم في وجه آلة الحرب الصهيونية، وحرب التجويع والقتل البطيء بالجوع ونقص العلاج لمن لم تفتك به صواريخ الاحتلال، وستنعكس معنوياً على تعزيز قناعة المواطنين أنّ صمودهم سيتكلل بالنصر على آلة القتل الصهيونية.

ترتيبات ميدانية للمقاومة: ستسمح فترة الهدنة وإجبار طائرات الاستطلاع الصهيونية على مغادرة أجواء القطاع، بإجراء المقاومة لمجموعة من الترتيبات الميدانية والتقييم العملياتي لمجريات الأوضاع على الأرض، وتجاوز أية معضلات عملياتية أو لوجستية قد نتجت نتيجة الضربات المهولة التي تعرّض لها قطاع غزة على مدار شهر ونصف من العدوان، إضافة لإعادة ترتيب صفوف المجموعات والعُقد القتالية في ضوء الواقع الميداني الجديد والتجهز للتعامل مع متطلبات استئناف القتال بعد انتهاء أيام الهدنة.

توسيع الالتفاف الشعبي حول المقاومة والقناعة بجدوى خياراتها: سيؤدي نجاح المرحلة الأولى من تبادل الأسرى في توسيع حجم التضامن الشعبي مع المقاومة، ليس في قطاع غزة فقط، بل لدى كل الجماهير الفلسطينية والعربية وأحرار العالم، وترسيخ القناعة أنّ خيارات المقاومة ذات جدوى حقيقية، وأنّ المواجهة والصمود هما الدرب الأجدى لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني من أنياب الاحتلال والعالم الظالم، وأنّ قضية الأسرى التي تُمثّل عنوان اجماع لدى كل الشعب الفلسطيني، سترى حلولاً تاريخية خلال الفترة القادمة.

إنهاء خزعبلات القضاء على المقاومة: يحسم الوصول لاتفاق الهدنة وتبادل الأسرى التخوفات حول مستقبل المقاومة في ظل الهجمة الصهيونية المدعومة عالمياً وغير المسبوقة تاريخياً على المقاومة، ويقطع الشك باليقين بأنّ المقاومة قادرة على الصمود والتصدي لكل “السيوف الحديدية” وأنّ “طوفان الأقصى” سيكلَّل بنصر للمقاومة يبدد كل أوهام القضاء على الفعل المقاوم وتفكيك البنية التحتية للمقاومة في قطاع غزة، فمن يمتلك قناعة أنّ “القضاء على المقاومة” هو هدف قابل للتحقق، لن يرضخ لعقد صفقات مع هذه المقاومة.

زيادة الأزمة الداخلية في كيان الاحتلال: بقدر ما تمثّل قضية الأسرى لدى الشعب الفلسطيني عنوان إجماع، فإنّ قضية تبادل الأسرى، والتعامل مع ملف أسرى الاحتلال لدى المقاومة هي عنوان خلاف واضح داخل مستويات صنع القرار لدى الاحتلال، فبينما يؤيد قسم مهم الخيار الأسلم لضمان تحرير الأسرى لدى المقاومة، يتبقى للبعض الآخر خيار المضي في العدوان حتى لو على حساب عدم إطلاق سراح الأسرى لدى المقاومة. وفي ذات السياق، فإنّ الصفقة الجزئية تلقى معارضة حتى من أهالي الأسرى، ويضغطون من أجل عودة كل أبنائهم جملة واحدة، وبالتالي، فإنّ الصفقة الجزئية ستُسهم في زيادة الضغط والتحرك لأهالي باقي المستوطنين والجنود الأسرى لدى المقاومة، ويوسع حراكهم للضغط بشكل أكبر على الحكومة لإنجاز صفقة تبادل أشمل وأوسع لإطلاق سراح أبنائهم وبشكل خاص أهالي الأسرى الجنود الذين لم تشملهم الصفقة.

سيُشكّل نجاح عملية التبادل البوابة الرئيسية من أجل تحريك أكثر قوة لصفقة أوسع وأكبر تُنهي العدوان على قطاع غزة وتصل إلى صفقة شاملة لإطلاق سراح أسرى الاحتلال لدى المقاومة، مقابل تبييض السجون

كخلاصة، تمثّل الهدنة المؤقتة في القطاع والوصول لتنفيذ مرحلة أولى من تبادل الأسرى، خطوة مهمة كبيرة تُقرّب الحرب من النهاية، وسيُشكّل نجاح عملية التبادل البوابة الرئيسية من أجل تحريك أكثر قوة لصفقة أوسع وأكبر تُنهي العدوان على قطاع غزة وتصل إلى صفقة شاملة لإطلاق سراح أسرى الاحتلال لدى المقاومة، مقابل تبييض السجون، ويحسم بما لا يدع مجالاً للشك أنّ قدرات المقاومة القيادية والميدانية لا زالت متماسكة وقادرة على استكمال المعركة وإفشال الأهداف التي رفعها رئيس وزراء الاحتلال ومجلسه الحربي، باجتثاث المقاومة والقضاء على بنيتها التحتية في قطاع غزة.

لكن من المهم أن لا يغفل أحد أنّ الاحتلال سيعمل على استغلال الهدنة من أجل تحصيل المزيد من التفويض الدولي للاستمرار في العمليات الحربية في قطاع غزة، ويستخدم هذه الورقة من أجل ترويج دعاية واسعة تُسهم في تخفيض حجم الاحتجاجات المتصاعدة خصوصاً في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إضافة للدول الصديقة للشعب الفلسطيني من أحرار العالم، وهو ما يُنذر بأنّ الاحتلال سيعمد إلى رفع سقف إجرامه في الأيام التالية للصفقة، مما يتطلب عدم الركون لإنجاز الصفقة الجزئية والحصول على أيام من الهدوء لا ميدانياً ولا في ساحات التضامن مع الشعب الفلسطيني، بل يجب اعتبار الهدنة محفزاً للمزيد من الحراك المُساند للشعب الفلسطيني في قطاع غزة ومقاومته.

 

#المقاومة #التبادل #طوفان_الأقصى