كما كان متوقعا، لم تنته معركة طوفان الأقصى سريعا، بل امتدت زمنيا، وثبت أنها مختلفة بشكل جذري عن المواجهات السابقة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية من حيث الشكل والتداعيات وكذلك مستوى إجرام الاحتلال والمجازر التي ارتكبها.
بالنظر لما سبق يمكن تصور أن تمتد الحرب طويلا جدا، لأشهر عديدة ربما، وهو ما تروج له ماكينة الاحتلال الإعلامية والسياسية، لكن ذلك ليس حتميا ولا مقطوعا به، إذ ثمة عوامل يمكن أن تدفع لتوقف العدوان عند نقطة ما. بل لعله ليس السيناريو الراجح، إذ رغم استثنائية الحرب الحالية واستعداد الاحتلال لخسائر بشرية واقتصادية وعسكرية أكبر بكثير من أي مواجهة سابقة، فإنه ما زال غير مستعد لحرب تمتد شهورا بأثمان بشرية وعسكرية واقتصادية غير مسبوقة. الأهم من ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تخوض الحرب معه وربما عنه، لا تريد حربا بلا سقف زمني أو أهداف واضحة، لأسباب كثيرة في مقدمتها قرب الانتخابات الرئاسية فيها.
ومن الشواهد المهمة على ما سبق؛ تراجع سقف الاحتلال وأهدافه من الحرب الحالية، إذ كان يتحدث في الأيام الأولى عن استرجاع جميع الأسرى من المقاومة الفلسطينية بدون قيد أو شرط، قبل أن يعود ويتحدث عن "التعامل مع ملفهم"، ثم ليتحدث مؤخرا عن احتمالية استرجاعهم "ضمن صفقة تبادل". وبعد أن كان الاحتلال يتحدث عن إنهاء حركة حماس وقدرات كتائب القسام العسكرية بالكامل، بدّل ذلك بهدف كسر قدراتها ومنعها من الهجوم مستقبلا على "إسرائيل"، وتدور أحاديث الأيام الأخيرة حول أهداف أكثر فرعية وهامشية في البعد العسكري والاستراتيجي.
وعليه، فإن الحرب مرشحة للتوقف عند نقطة ما تجتمع لها بعض العوامل العسكرية والاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية، بحيث يصبح من الممكن للاحتلال إيقافها والتخطيط لما بعدها، اختيارا أو اضطرارا.
نظريا، يمكن أن تقف آلة الحرب الصهيونية إذا ما أنزلت هزيمة عسكرية ساحقة بالمقاومة أو اضطرت الأخيرة للاستسلام بسبب ما يحصل لحاضنتها الشعبية من مجازر لا تعرف التوقف، لكن ذلك يبقى احتمالا نظريا لا رصيد له في الواقع الميداني ولا مؤشرات على ارتفاع احتمالاته.
عمليا، يمكن للحرب أن تقف إذا ما وصل الاحتلال لنقطة يستطيع عندها الادعاء بأنه حقق إنجازا كبيرا، إما ميدانيا بالتقدم وسط مدينة غزة مثلا، أو إثر اغتيال شخصية وازنة في قيادة حماس أو ذراعها العسكرية. إذ يمكن له حينها الادعاء بأنه كبد المقاومة خسارة محققة، لا سيما وأنه يدّعي منذ البداية أن معظم الشهداء المدنيين هم من كوادر الحركة.
ويمكن للحرب أن تتوقف إذا ما تجاوزت خسائر الاحتلال في الجنود والآليات ما يمكنه تحمله، لا سيما مع وتيرة الاستهداف الكبيرة والموثقة من كتائب القسام، والمتوقع أن تزداد مع تعمّق المعركة البرية، وحينها يمكن للاحتلال أن يوقف الحرب مؤقتا بأي ذريعة حتى يعيد ترتيب صفوفه وتدعيم قواته، ولو أن يتذرع بدوافع "إنسانية".
ويمكن كذلك للحرب أن تتوقف إذا ما وصلت واشنطن لقناعة بضرورة ذلك وضغطت على نتنياهو وحكومته في هذا الاتجاه، إذ هي من تقود دفة هذه الحرب عسكريا وسياسيا، وتملك نفوذا كبيرا -لا يمكن رده أو مقاومته- على نتنياهو وحكومة الحرب التي شكلها؛ حيث البعض من كبار وزرائها من المحسوبين عليها.
يمكن لاستمرار صمود المقاومة وتكبيدها الاحتلال الخسائر المتتالية أن تدفع الولايات المتحدة لقرار من هذا النوع، حتى ولو لم تتحصل قناعة لدى حكومة الاحتلال بهذا الخصوص، إذ تتصرف الأولى وكأنها الأم الأعرف بمصلحة طفلها منه نفسه.
ويمكن أن يحصل ذلك بسبب التغيرات في الرأي العام العالمي وعلى وجه الخصوص الأمريكي، إذ تُظهر استطلاعات رأي أجريت مؤخرا تراجع شعبية بايدن وفرصه في الانتخابات المقبلة، ولا شك أن استمرار هذا النزيف التصويتي سيصعب جسره في الوقت القصير نسبيا حتى الانتخابات. ويضاف لهذا المسار الاعتراضات وبعض الاستقالات داخل الحزب الديمقراطي وفي وزارة الخارجية وعموم الإدارة الحالية.
كما أن الولايات المتحدة قد تسعى لوقف الحرب إذا ما شعرت أنها قد تتسبب بخسائر أكبر من أي مكاسب مرجوة منها، وعلى وجه التحديد إذا ما شعرت بأنها قد تتسبب بانقلاب الأوضاع في الضفة الغربية المحتلة و/أو الأردن و/أو مصر، إذ تعول واشنطن كثيرا على استقرار الأوضاع في هذه الساحات الثلاث وتخشى من أي تململ فيها. ويمكن قول شيء شبيه بذلك إذا ما كان البديل حربا إقليمية موسعة أو شاملة تقول كل المؤشرات أن واشنطن تسعى لتجنبها، وأن نتنياهو يحاول توريطها بها.
وفي الخلاصة، فإن هذه بعض أهم السيناريوهات المحتملة لوقف الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزة وخصوصا في البعد العسكري والاستراتيجي. وعليه، فعلى من هو معني بوقف آلة الحرب الصهيونية أن يتدارس هذه السيناريوهات ومثيلاتها ويرى كيف يمكن أن يكون له دور أو أثر إزاءها. ووفق هذه الرؤية فإن الحاضنة الشعبية للمقاومة، أي أهل غزة، هي الخاصرة الضعيفة لها والتي يسعى الاحتلال للضغط على المقاومة من خلالها بالقصف والقتل والحصار ومنع المساعدات والتهجير، ولذلك فعلى من هو حريص على الشعب الفلسطيني ومقاومته فعلا لا ادعاء؛ أن يعمل على تخفيف الضغط على المدنيين ما أمكن ذلك.
بيد أنه يبقى هناك معنى مهم تنبغي الإشارة له، وإن كانت مساحة المقال الحالي لا تتيح التفصيل فيه، وهو أن النتيجة العسكرية والاستراتيجية للمعركة الحالية قد حسمت منذ الساعات الأولى ليوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، وكل ما يحصل منذ ذلك الوقت هو محاولات يائسة من الاحتلال لعكس ذلك دون جدوى، وبالتالي محاولة تدفيع المقاومة والفلسطينيين معها أكبر ثمن ممكن.
فالاحتمال الوحيد لخسارة المقاومة هذه الجولة الاستثنائية هو أن ترفع الراية البيضاء وتسلم ما لديها من أسرى دون أي قيد أو شرط، وهو احتمال غير واقعي كما هو واضح، ما يعني أنه مهما أطال الاحتلال أمد هذه الحرب فإنها ستنتهي بالنتيجة نفسها -أي لصالح المقاومة- من زاوية نظر عسكرية واستراتيجية، لتبدأ بعدها تفاعلاتها وتداعياتها على الكيان، وفي مقدمتها إنهاء الحياة السياسية والعسكرية للكثير من القيادات وعلى رأسهم نتنياهو، وكذلك صفقة موسعة لتبادل الأسرى، وغير ذلك.