شبكة قدس الإخبارية

الحرب على غزّة.. فرصة بين إرادة الإمبراطورية الأمريكية والإرادة الإقليمية المعطوبة

قدس ٣_
ساري عرابي

 

بدا الأمرُ في غزّة وكأنّه فرصة للإمبراطورية الأمريكية، فهي التي تؤجّل المناورة البرّية الإسرائيلية، التي يقول الجيش الإسرائيلي إنّه جاهز لها إداريّا وناريّا، ولكن نتنياهو يمتنع حتى الآن عن اتخاذ القرار بالدفع نحوها.

اختلفت التقديرات التي تبحث في دوافع تأجيل المستوى السياسي الإسرائيلي لهذه العملية، فمن اتهام أوساط سياسية لنتياهو بالجبن، إلى إرجاع الأمر برمّته للولايات المتحدة، وفي حين أنّ مناورة كهذه تحتاج قائدا سياسيّا شجاعا، فقد بات من المؤكّد أنّ القضية أمريكية بامتياز.

المؤكّد أنّ الولايات المتحدة هي التي تدير هذه المعركة، وإذا كانت قد أجرت عملية استكشاف وضغط في البداية تحت عنوان تهجير الفلسطينيين من قطاع عزّة فيما يبدو محاولة منها لاستثمار الحدث لفرض تسوية مدمّرة للقضية الفلسطينية، فإنّها الآن بصدد ضمان أحسن نتيجة من هذه الحرب للاحتلال الإسرائيلي، سواء في محاولة إخراج حركة حماس نهائيا من إدارة القطاع، أو على الأقل تدمير مقدراتها، أو إنهاء فاعلية المقاومة من القطاع لسنين طويلة قادمة بعد عمليات التدمير الممنهج للحياة الحضرية فيه، وبفرض قضية الإعمار عليه تاليا. وبالضرورة لن يتحكم الأمريكي بالقرار الإسرائيلي دون إظهار هذا الدعم الهائل وتعزيزه بدعاية الرعب والتهديد، وقد صار من نافلة القول العودة لاستعراض لا أوجه الدعم الأمريكي لـ"إسرائيل" فحسب، ولكن الانغماس الأمريكي في أدق التفاصيل إلى درجة تجهيز قوّات خاصّة ووضعها في ظرف الجهوزية والاستعداد للتدخل.

بقى السؤال عن الأسباب الأمريكية الدافعة نحو تأجيل الحرب البرّية، إذ تذكر المصادر عن الأمريكيين أسبابا مختلفة، منها الانتظار لاسترجاع المحتجزين لدى حركة حماس قبل توسيع الحرب في غزّة، ومنها الاستعداد لاتساع الحرب إقليميّا، ولذلك فهي ترسل صواريخ "ثاد" و"باتريوت" لنصبها في المنطقة، بما في ذلك داخل دول حلفائها العرب، ومنها بانتظار إرسال المزيد من القوات الأمريكية لتعزير القوّة الإسرائيلية أو لردع إيران وحلفائها عن التدخل أو لتكون جاهزة لأيّ تحوّل.

وعموما فلا شكّ أن أمريكا تبحث عن تحسين شروط الموقف الحربي الإسرائيلي من خلال إطالة القصف الجوّي المساحي لأطول فترة، وربما تعتقد أنّ هذا القصف وحده قد يكون كافيا لحسم المعركة بفرض الاستسلام على أهالي غزّة والمقاومة فيها، أو ترى أنّ قوّة النيران والتفوّق الجوّي لا يدعان حاجة للاستعجال في أيّ دخول برّيّ، فلماذا تدخل "إسرائيل" مغامرة برّية بلا معلومات استخباراتية كافية وهي قادرة على إحداث هذا الدمار كلّه من الجوّ؟!

تستعيد الولايات المتحدّة النموذج اليوغسلافي، حينما كثّف حلف شمال الأطلسي ضرباته الجوية على صربيا والجبل الأسود من 24 آذار/ مارس وحتى 10 حزيران/ يونيو 1999. يُضاف إلى ذلك أنّ البعض يتحدث عن نماذج الموصل والرقة أخيرا؛ إلا أنّه وفي الأحوال كلّها، لا ينبغي إغفال ما تمثّله القضية الفلسطينية، وعدالة قضية سكان غزّة، بقطع النظر عن حركة حماس، وأنّ المعركة تجري داخل فلسطين. فـ"إسرائيل" نفسها في قلب الضغط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ونزوح عشرات آلاف الإسرائيليين من مستوطنات "غلاف غزة" وجنوبي فلسطين وشماليها، وإطالة أمد التعبئة العامة باستدعاء كامل الاحتياط بما يعكسه ذلك على مجمل الحالة الاقتصادية والاجتماعية، وتصاعد التحدّي الأمني في شمالي فلسطين، يجعل المعركة معركة صبر وعضّ أصابع ومختلفة عن أيّ نموذج آخر جرّبته الولايات المتحدة بعيدا عن عمقها، بالرغم من قدرة الإسرائيلي والأمريكي على إحداث الدمار الهائل والإزاحة السكانية. ويبقى إشغال القطاع بالإعمار من بعد الحرب، هدفا من شأنه إخراجه من فاعلية المقاومة لسنين طويلة، كما سبق قوله.

إن كانت الإمبراطورية الأمريكية بخبرتها الإمبريالية قادرة على تحويل الحرب إلى فرصة، فهل تمنح هذه الحرب القوى الإقليمية، فرصة لتحسين مكانتها وتعزيز مواقعها؟! بالتأكيد، إلا أنّ المشكلة في إرادتها لا في قدرتها، وربما أيضا في تواطئها، إذ يبدو الموقف أنّ ثمّة من ينتظر القضاء على هذه "المقاومة المزعجة" و"الحركة الناشز عن مجمل السياق العربي"، دون اعتبار للتاريخ والتجربة مع أمريكا، التي تقدر على القتل وإحداث الدمار، ولكنها لا تنهي خططها أيضا. ولننظر إلى مآلات غزوها للعراق وأفغانستان، لكن من يمكنه الاتعاظ والاعتبار وهو لا يملك الإرادة؟!

يستطيع النظام المصري الحالي فرض وقف الحرب، وفي أضعف الأحوال فرض إدخال المساعدات على مدار الساعة بلا شروط، ولن تغامر "إسرائيل" بخسارة اتفاقية سلام استراتيجية تحيّد بها الجبهة الغربية وتحوّل بها سيناء إلى عمق إستراتيجي لها. بكلمة أخرى، لن تفعل "إسرائيل" شيئا أكثر من التهويش، والاستعانة بالضغوط الأمريكية، لكن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من الصمود في وجه الضغوط، ومن سخرية الموقف أن يصمد القطاع الصغير المحاصر تحت القصف الغاشم، في حين تُنصح دول، يُفترض أنها كبيرة في الإقليم، بالصمود لتعزيز مكانتها الإقليمية من خلال فرض وقف الحرب، أو فرض إدخال المساعدات.

يستطيع الأردن فعل الشيء نفسه، واستعادة مكانته كاملة في الإشراف على المسجد الأقصى، واتخاذ مرقف أقوى على مستوى الوساطة الإقليمية، وتحصين جبهته الداخلية، بينما يمكن للمملكة العربية السعودية أن تصنع زعامتها للعالم الإسلامي، من خلال موقف أقوى من هذه الحرب.

وأمّا إيران فإن دخولا أكثر جرأة لها على مجريات الحرب من شأنه أن يعزّز دعايتها ويخفّف من الاستقطاب الطائفي الذي نجم في جانب منه عن طريقتها في التدخل في العراق وسوريا، والتأخر في إظهار هذه الجرأة سوف تكتشف خسائره الفادحة لاحقا.

بقدر ما تعمل الإمبراطورية الأمريكية على تحويل الحرب إلى فرصة، تتسع الفرصة حتى لحلفاء أمريكا في الإقليم، ولكن من موقع أكثر استقلالا عنها، دون أن يكبّدهم ذلك أثمانا ذات شأن، إلا أنّ المعضلة في الإرادة المعطوبةوأمّا بالنسبة للسلطة الفلسطينية فليس ثمّة أيّ استفادة (وطنية) من هزيمة قد يرجوها البعض لحماس في القطاع، ولا ينبغي أن تُنسى تركيا، والحالة هذه، إذ يبدو أنّ المخيال السياسي لأردوغان، انحصر في المناورات القائمة على تقديم التنازلات المؤقتة للقوى التي يعتقد أنّ الحلّ والربط بيدها في العالم، لكنّه كالعادة سيجد أنّ كل تنازل هو استجابة للابتزاز، وأنّ من يملك القدرة على الابتزاز لن يتخلّى عن هذه الميزة، لتكون تركيا وحزبها الحاكم أكبر الخاسرين من افتقادهم الإرادة لتحويل الحرب على غزّة لفرصة أفضل من موقع أكثر شرفا ونبلا.

 

#غزة #المقاومة #طوفان_الأقصى