المهمّ ما حصل، وما سوف يحصل قد حصل. هذه هي الإجابة على الأسئلة كلّها التي تُطرح باستمرار في المجال العربي، عمّا فعلته كتائب القسام صبيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وما سوف تصير إليه معركة "طوفان الأقصى" التي أطلقتها.
كلّ الأسئلة السابقة على هذه المعركة سقطت، تماماً كسقوط "إسرائيل" المدوّي، سقطوها هيبة، وجيشاً قالت دائماً إنّه لا يقهر، واستخبارات أوهمت نفسها، قبل أن توهم العرب والعالم، بأنّها تحيط علماً بكلّ شيء، فالسؤال اليائس عن إمكان هزيمتها سقط، كما سقط كلّ سؤال كافر بقدرتنا، وسقطت كلّ جهالة بمعنى مقاومة الفلسطينيين وجدواها، واتضحت لاحبة الطريق الصحيحة نحو فلسطين.
ما الموضع المقابل لـ"طوفان الأقصى"؟
سقط اليأس، وانفتحت بوابة التاريخ، والفضل في ذلك فقط لمانح المعنى، مُجّدد الحقيقة، مزيل الغبار والأتربة عن الصواب الحادّ والخالص والمطلق. وذلك لأنّه باختصار، كان يمكن لنا أن نرى فلسطين من موضع مقابل، لنرى بعد ذلك ماذا يعني "طوفان الأقصى"من الأوصاف التي سادت في الآونة الأخيرة للحالة الفلسطينية في مستوييها الداخلي، وفي العلاقة الصراعية مع الاحتلال، وصف "الانسداد التاريخي"، ويمكن تلخيص هذا الوصف بأنّ القضية الفلسطينية بدت وكأنّها قد صارت خلف العالم، لأنّها أولاً وقبل العالم تبدو وكأنّها خلف العرب، حينما يتحوّل الموقف العربي من موقف خطابيّ مساند، إلى حليف فعليّ للاحتلال. فالعلاقات التطبيعية المستجدّة تأخذ موقف التحالف، وهو الأمر كامل السفور في بيانات بعض الدول العربية إزاء المعركة الجارية الآن، والتي تردّدت ما بين إدانة فعل المقاومة وبين المساواة بين الضحية والجلاد ليكون الأمر في النتيجة انحيازاً للجلاد.
تبلورت في الذهن صورة ما نسمّيه "الانسداد التاريخي" في حقبة ترامب، ومع ما عُرِف إعلاميّاً بـ"صفقة القرن"، وإعلان بنيامين نتنياهو في تلك الفترة عن مشروعه لضمّ الضفّة، واتضاح الترتيبات للمنطقة بما يقضي بتصفية القضية الفلسطينية بإخراجها من أدنى اهتمام عربيّ رسميّ، من خلال صفقات التطبيع التحالفيّ، ثمّ تالياً مع حكومة نتنياهو الحالية المتحالفة مع الصهيونية الدينية الفاشية صاحبة مشروع "الحسم"، والاستهتار الكامل بالفلسطينيين في الاقتحام المكثف للمسجد الأقصى الهادف إلى فرض تقسيمه، مع ضيق الإمكانات النضالية في الضفّة الغربيّة بالرغم من أهمّية المقاومة التي ظلّت تتشكّل في الضفّة في حدود ظروفها، والتي ساهمت في تسهيل عملية "طوفان الأقصى" لاستهلاك جيش الاحتلال عديده داخل الضفّة الغربية.
ما يُسمى "مشروع التسوية" أو "عملية السلام"، وصل بالفلسطينيين إلى خطّة التصفية تلك المسماة "صفقة القرن"، و"الاتفاقيات الإبراهيمية" و"التطبيع دون حلّ القضية الفلسطينية"، وفي الأثناء تنتشر الوقائع الاستيطانية في الضفة الغربية انتشار السرطان في الجسد. وقد كان هذا المشروع "التسوية"، بقطعه مع المسار النضالي الفلسطيني، وتأسيسه سلطة في ظلّ الاحتلال، السبب الجوهري في الانقسام الفلسطيني، وفي تدمير جزء أساس من جسد الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي مصادرة الإمكانات النضالية للفلسطينيين، وقد تحوّلت هذه الوقائع كلّها، لا سيما سلطة في ظلّ الاحتلال، إلى جسر للتمدّد الإسرائيلي في المنطقة والعالم.
بدا في المقابل أنّ المقاومة في غزّة، بسبب الحصار وبسبب تلبّس التنظيم الرئيس للمقاومة، وهو حماس، بإدارة شؤون الناس، مأزومة بدورها، وألا مخارج ظاهرة في الأفق لهذه الأزمة، وهو التصوّر الذي تعزّز لدى كثيرين، بالامتناع الظاهر لحركة حماس عن الدخول في آخر مواجهتين فُرضتا على غزة قبل معركة "طوفان الأقصى" التي أطلقتها حماس نفسها.
هذا تلخيص مكثّف، ومخلّ في الوقت نفسه، لما يمكن أن نسمّيه بـ"الانسداد التاريخي"، ولنتخيل حين الحديث عن هذا الانسداد، لو كان الفاعل الوحيد في الحالة الفلسطينية، والخيار المتسيّد فيها خيار التسوية، إلى جانب الرداءة العربية الراهنة غير المسبوقة، كيف ستكون الحالة الفلسطينية حينها، وقد خلت من أيّ توازن داخلي يدفع نحو خلخلة الأوضاع المتكلسة، ويقدّم ممارسة سياسية مناقضة للمشروع الذي أفضى بالفلسطينيين والمنطقة نحو الدخول المطلق في الإرادة الإسرائيلية؟! هذه هي بالضبط القيمة الأساس لقضية المقاومة، وما يجعلنا نقول إنّ المقاومة هدف في ذاتها، هدف سياسي، واستراتيجي، وأخلاقي، وقيمي، وتعبوي، ومعنوي، بمجرّدها، وهو ما لا يفهمه الكثيرون ممن يعتقدون أنّها مجرّد أداة تكتيكية في استراتيجية تفاهمية، أو يعجزون عن رؤية الإنجاز الذي يصنعه الصمود، وما يُبنى عليه من مراكمة للقوة والقدرة.
لم تكن المقاومة في غزّة، والحالة هذه، فكرة مسلّمة بحدود العقل المحافظ من التفكير، ولم تكتف بمراكمة القوّة والقدرة، بل كانت تفكّر في الفعل العسكري ذي المغزى السياسي، الرامي إلى خلق انقلاب في الواقع المتكلّس والمستسلم داخل الإرادة الإسرائيلية، فدفعت نحو عملية كبرى غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع الاحتلال (هي عملية أهمّ من حرب تشرين/ أكتوبر 1973 حين النظر إلى الفرق بين جيوش دول بعمق جغرافي وبين تشكيل مسلّح صغير في مساحة ضيقة منبسطة ومكشوفة).
كانت المقاومة أكثر ثورية وجذريّة، بهذا الفعل الاستثنائي، من كل ما سبق في تاريخ الصراع، لكنّها لم تكن كذلك فحسب، بل حصّلت فوق ذلك إنجازها سلفاً، فهي تدرك قوّة النار الهائلة للعدوّ وتفوقه الجوّي وكل ما يختبئ خلفه، فكان لا بدّ من تحقيق الإنجاز سلفاً، حصيلة عسكرية، ومباغتة أمنية، وصورة دعائية من وجهين؛ وجه القدرة الفلسطينية المجبولة من العدم والمستحيل، ووجه الحقيقة الإسرائيلية المحدودة ونفي إطلاقها وإثبات أنّها قابلة للهزيمة، وأنّ جيشها يُقهر واستخباراتها تفشل وعقولها البحثية والإستراتيجية تعمى وجهازها يتخبط.
في ضربة واحدة، حقّقّت المقاومة ذلك كلّه، فما سوف يحصل قد حصل، فسؤال اليوم التالي إجابته اليوم الأوّل. وفي الأثناء، كانت العملية خلخلة كبرى لكل الحسابات الإقليمية والدولية، وتعرية كاملة ونهائية لكلّ الدعايات السياسية التي شوشت الرؤية الصحيحة إلى الأوضاع الفلسطينية، وضربة موغلة في السياسات الصهيونية اليمينية الفاشية الرامية إلى حسم الصراع في الضفة وتقسيم المسجد الأقصى، وفتح الباب على مصراعيه لإنهاء ملف الأسرى المفتوح منذ بداية الصراع، وكسر لإرادة تركيع غزّة برغيف الخبز. وإذا كانت ثمّة خطّة لمفاجأة المقاومة بضربة يستعد لها جيش العدوّ بترتيب أمريكي وعربي متحالف مع الصهاينة، فقد سبقتهم المقاومة وأنجزت حصيلتها، ثمّ صار اليوم التالي تحصيلاً حاصلاً.
هنا المقاومة صارت أكبر من غاية بمجرّدها فكرة وفعلاً من الصمود والمشاغلة أو المراكمة، بل هي غاية، وفعل سياسي، وإنجاز استراتيجي، بالجرأة الثورية التي لا تُمثّل فقط قلباً للأوضاع القائمة، ولكنّها تمثل انقلاباً كاملاً في الفكر السياسي الفلسطيني والعربي المحافظ.
ما سوف يحصل قد حصل، لكن التفكير ينبغي أن ينصبّ بعد التشبع بإنجاز المقاومة وتمثّله والتخلّق به والاندراج في إطاره نموذجاً للتفكير، هو النظر في كيفية غلّ يدّ العدوّ عن مجزرته المفتوحة في غزّة.