على النقيض من النهج الاحتفالي الاستعراضي المشهدي للتطبيع الذي رافق ظهور الموجة الأولى من التبشير بـ"صفقة القرن"، وأفضى إلى توقيع "الاتفاقيات الإبراهيمية" بين دول خليجية صغرى كالإمارات والبحرين وإسرائيل، يُطبخ التطبيع بين السعودية وإسرائيل على نار هادئة، فالتطبيع مع السعودية يتطلب نهجاً صبوراً فهي دولة محورية في الشرق الأوسط وتتمتع بأهمية كبيرة في الاقتصاد العالمي لمكانتها المهمة في مجال الطاقة.

لم يكن مفاجئاً ما أعلنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية في أيلول/ سبتمبر 2023، بأن المملكة "تحقق تقدماً" باتجاه التطبيع مع إسرائيل، وقال ولي العهد السعودي: "نقترب كل يوم أكثر فأكثر من تطبيع العلاقات مع إسرائيل". وأضاف قائلا "هناك دعم من إدارة الرئيس بايدن للوصول إلى تلك النقطة، وبالنسبة لنا فإن القضية الفلسطينية مهمة للغاية. نحتاج إلى أن نحل تلك الجزئية ولدينا مفاوضات متواصلة حتى الآن، وعلينا أن نرى إلى أين ستمضي. نأمل أن تصل إلى مكان تسهل فيه الحياة على الفلسطينيين وتدمج إسرائيل في الشرق الأوسط".

منذ الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي" الذي جاء بالإسلام السياسي، قادت السعودية ثورة مضادة لإعادة بناء السلطويات العربية الهشة وإزاحة تحدي الإسلام السياسي، وقد تنامى دور السعودية في صناعة السياسات الإقليمية، حيث تخلت عن سياساتها المحافظة بالعمل في إطار "الإجماع العربي". ومنذ تسلم ولي العهد محمد بن سلمان زمام السلطة الفعلي أصبحت السعودية بقيادة بن سلمان أكثر جرأة وحزماً في تدبير السياسة الداخلية وتجاه قضايا السياسة الخارجيةوفي مقابلة سابقة أجراها وليّ العهد السعودي مع المجلة الأمريكية "أتلانتيك" في آذار/ مارس 2022، صرح بأن السعودية لا تعتبر إسرائيل عدوا، بل اعتبرها "حليفا محتملا"، حيث تجمع الدولتين مصالح مشتركة. ومن جانبه، قال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في 21 أيلول/ سبتمبر (في اليوم التالي لمقابلة ابن سلمان) إن اتفاقاً إطارياً توسطت فيه الولايات المتحدة لإقامة علاقات بين إسرائيل والسعودية قد يتم إبرامه بحلول بداية العام المقبل.

فكرة "صفقة القرن" لم تكن محرد اختراع خالص وهوام مرضي من نسيج خيال الولايات المتحدة الأمريكية وبوحي من المستعمرة الاستيطانية الصهيونية، بل استندت إلى التصورات والوقائع التي خلقتها المملكة العربية السعودية وفرضتها بعد الانقضاض على الانتفاضات العربية، من خلال بروز رؤية سياسية براغماتية تطورية داروينية مشتركة حول المنطقة، تقوم على عقيدة الاستقرار التي يمكن فرضها بالقوة بعد تحديد المخاطر والتهديدات المشتركة وإزالة العقبات والتحديات، وهو ما يتحقق بتصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والدكتاتوريات العربية والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، وبناء استراتيجية شمولية طموحة حددت بموجبها عوامل عدم الاستقرار بمقولة "الإرهاب" الإسلامي، وهو مصطلح بات يكافئ "الإسلام السياسي" وحركاته الثورية الجهادية والسلمية الديمقراطية بنسختيه السنية والشيعية، وممثليه في المنطقة المنظمات السنية المنبثقة عن أيديولوجية "الإخوان المسلمين" المسندة من تركيا، والحركات الشيعية المنبثقة عن أيديولوجية "ولاية الفقيه" المسندة من إيران.

لا تبدو السعودية في عجلة من أمرها للتوصل إلى توقيع اتفاق تطبيع مع إسرائيل دون ثمن، لكن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تسابق الزمن لإنجاز الاتفاق قبل موعد الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، في سياق استثمار الاتفاق في المنافسة الانتخابية، بينما يتفهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو التأنّي والصبر السعودي. ففي لقائه مع بلومبيرغ الأمريكية قال نتنياهو إن الأمر قد يأخذ مساراً تدريجياً، ريثما يتم تطوير العلاقات في المجالات الاقتصادية، خصوصاً الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجية والأمنية والعسكرية، قبل الوصول إلى تطبيع العلاقات الديبلوماسية وتبادل السفراء.

ومنذ عودة نتنياهو إلى السلطة في مطلع العام 2023، تعهّد بالتركيز على هدفَين متعلّقَين بالسياسة الخارجية؛ هما منع إيران من حيازة سلاح نووي وتحقيق تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية. وقد بدا أن نتنياهو في خطابه خلال الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 أيلول/ سبتمبر أكثر تفاؤلاً حيث قال إن إسرائيل على أعتاب اتفاق سلام تاريخي مع السعودية.

في هذا السياق نقلت وكالة "رويترز" عن عدة مصادر قولها؛ إن السعودية ستطبّع علاقتها مع الاحتلال الإسرائيلي بحال تحقيق شرط واحد، وهو إلزام الولايات المتحدة باتفاقية دفاع عنها. وأوضحت الوكالة نقلا عن ثلاثة مصادر مطلعة على مفاوضات التطبيع، أنه في حال تحقق هذا الشرط، فسيتم تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، دون النظر بمطالب السعودية الأخرى المتعلقة بحقوق الفلسطينيين. وأشارت الوكالة إلى أن حصول السعودية على اتفاق دفاعي ملزم مع الولايات المتحدة، سيدفعها نحو التطبيع، حتى لو لم تقدم إسرائيل تنازلات كبيرة للفلسطينيين من أجل إقامة دولة مستقلة لهم.

وتشير عبارة ولي العهد السعودي بأن الهدف من التطبيع هو تسهيل حياة الفلسطينيين، إلى تخلي السعودية عن مبادرة السلام التي قدمتها بنفسها خلال القمة العربية التي عقدت في بيروت عام 2002. وتنص المبادرة على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في حزيران/ يونيو 1967، مقابل سلام شامل وتطبيع كامل بين الدول العربية الأعضاء في جامعة الدول العربية وإسرائيل.

باتت المطالب السعودية من واشنطن معروفة وواضحة، للدخول في مسار التطبيع مع إسرائيل، في إطار المصالح المشتركة الأمريكية السعودية. فبعد أن تخلى الرئيس جو بايدن عن فكرة نبذ السعودية، أعاد ترميم العلاقات بين البلدين، وشدد على توسيع نطاق قبول إسرائيل في المنطقة، ومواجهة النفوذ الصيني، حيث أطلقت الولايات المتحدة سلسلةً من الاتصالات على المستوى الرفيع لإحراز تقدّم نحو تحقيق هذه الأهداف، من بينها زيارتان أجراهما كلٌّ من مستشار الأمن القومي جايك سوليفان ووزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى السعودية. وحسب تقارير عدة فإن الشروط السعودية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل شملت ضمانات أمنية من الولايات المتحدة شبيهة بتلك التي تربط دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وإمكانية الحصول على أنظمة الأسلحة المتطورة الأمريكية، والموافقة على امتلاك تكنولوجيا نووية مدنية.

في حقيقة الأمر تسير السعودية بهدوء على طريق التطبيع مع إسرائيل، وقد مهدت الأرضية بخطوات ثابتة منذ الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي، وبلغت المقاربة العربية الاستبدادية ذروتها من خلال التطبيع مع المستعمرة اليهودية، وبناء رؤية عربية إسرائيلية برعاية أمريكية في مواجهة الإسلام السياسي، والتصعيد مع قطر وتركيا وإيران سياسياً واقتصادياً وصولاً إلى حروب الوكالة عسكرياً في مناطق عدة.

ومع تبدّل الظروف الدولية والإقليمية عكست الأنظمة الاستبدادية نهجها إلى تبني النهج الدبلوماسي البراغماتي، بعد أن تكشفت سنوات الصراع عن مزيد من عدم الاستقرار، حيث انتهت حقبة حصار قطر وعادت علاقات الدوحة مع الرياض وأبو ظبي، بعد انقطاع دام سنوات، واستؤنفت العلاقات مع تركيا، وتوّجت الموجة الدبلوماسية بعودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في آذار/ مارس 2023، بعد سبع سنوات من العداء المتبادل. وفي أيار/ مايو الماضي، تم الترحيب ببشار الأسد في جامعة الدول العربية، بعد أكثر من عقد من العزلة، وانخرطت الرياض، على مدار العامين الماضيين، في محادثات مع الحوثيين في اليمن المدعومين من إيران، في محاولة لإنهاء الحرب.

خلال العقد الأخير الذي أعقب الإجهاز على ثورات "الربيع العربي" عملت السعودية على ترتيب البيت الداخلي لمنع أي معارضة داخلية وبناء سردية وطنية جديدة، وعملت على ترسيخ دورها الإقليمي والعالمي، فقد اعتمدت السعودية حسب ستيفان لاكروا منذ وقت طويل على توازن بين سلطات الأمراء (آل سعود) والعلماء (رجال الدين) وتوازنُ القوى بينهما؛ وكان قد بُني على اتفاق ضمني لتقاسم السلطة، فمن ناحية يحكم الأمراء، ومن ناحية أخرى يحدد العلماء التقاليد الدينية ويتحكمون في المجتمع، حيث كان الأمراء مسؤولين عن كل ما يتعلق بإدارة الدولة، أو ما يمكن تسميته "سياسات الدولة العليا"، في حين كان العلماء مسؤولين عن القيم الدينية والاجتماعية وفرضها في المجتمع والحفاظ عليها، من خلال الذراع القسرية للعلماء التي تتمثل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما سيتبدل جذرياً بإلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

منذ أن اعتلى الملك سلمان العرش في عام 2015، ولا سيما منذ أن أصبح نجله محمد بن سلمان ولياً للعهد في عام 2017، أصبح الموضوع الأساسي للتغيير السياسي في السعودية هو زيادة النزعة القومية وتخفيف النزعة الدينية، وقد تُوجت سلسلة من الإجراءات لتقليص نفوذ السلفية الوهابية بتغيير سردية بناء المملكة السعودية في 27 كانون الثاني/ يناير 2022، عندما أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتبار يوم 22 شباط/ فبراير يوماً وطنياً يحمل اسم "يوم التأسيس". ويصادف هذا اليوم ذكرى "بدء عهد الإمام محمد بن سعود وتأسيسه للدولة السعودية الأولى"، والتي تأسست، بحسب الأمر الملكي، في شباط/ فبراير 1727.

ويشكل هذا الحدث أهمية سياسية كبيرة كونه يشير إلى القطيعة الجذرية مع السلفية الوهابية ونفوذها السياسي الذي أضفى شرعيةً على المشاريع السياسية السعودية المتعاقبة منذ عام 1744، فاختيار عام 1727 بدلاً من 1744 عاماً تأسيسياً للدولة لا يعني الانفصال عن أسطورة الوهابية السياسية، بل يؤسس لأسطورة سياسية جديدة.

على الصعيد الإقليمي والدولي تبدلت علاقة السعودية بإسرائيل، فقد استضاف العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الحاخام المقيم في القدس ديفيد روزين، وشارك سائقون إسرائيليون في رالي داكار في كانون الثاني/ يناير 2021 في السعودية، وروى الصحافي الإسرائيلي يوآف ليمور في مقال أنه زار المملكة مع زميل له، مشيراً إلى أنّه استُقبل بفضول في السعودية. وقالت المبعوثة الخاصة إلى واشنطن لمكافحة معاداة السامية ديبورا ليبستادت بعد زيارة المملكة في حزيران/ يونيو 2022: "لعقود عديدة، كانت السعودية مُصدِّراً كبيراً لكراهية اليهود، لكن ما وجدته هو شيء مختلف تماماً، شيء تغير هناك بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية".

وظهرت بوادر هذا التحوّل قبل اتفاقات تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين في الخليج في أيلول/ سبتمبر 2020. فالكتب المدرسية التي كانت تنعت أتباع الديانات الأخرى، وبينها اليهودية، بأوصاف مثيرة للجدل، تخضع منذ سنوات للمراجعة كجزء من حملة ولي العهد لمكافحة "التطرف" في التعليم. وقالت وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها الأخير عن حقوق الإنسان في السعودية إن خطاب الأئمة المناهض لإسرائيل "نادر بشكل عام"، وإن وزارة الشؤون الإسلامية شجعت على "رفض التعصّب الأعمى". وأشادت إسرائيل برجل الدين السعودي محمد العيسى الذي يرأس "رابطة العالم الإسلامي" في كانون الثاني/ يناير 2020، بعدما سافر إلى بولندا لحضور احتفالات بمناسبة مرور 75 عاماً على تحرير معسكر أوشفيتز.

خلاصة القول أن مسار التطبيع بين السعودية وإسرائيل يتقدم بهدوء، وهو مسار يتمتع بأهمية كبيرة للولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والمستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، وهو نتاج التحولات العميقة في الشرق الأوسط بعد الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي، والتحولات الدولية باتجاه التعددية القطبية، والتي أفضت إلى بناء تصورات جديدة حول الاستقرار في المنطقة ومهدداته، تبلورت عن رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والدكتاتوريات العربية والاستعمارية الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالحركات الإسلامية؛ التي تقوم أيديولوجيتها على مناهضة الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية.

فتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل برعاية أمريكية، سيوفر للأطراف الثلاثة منافع ومصالح مشتركة، حيث يعزز الدور المحوري للسعودية في المنطقة، وسيزيد قبول إسرائيل في العالم العربي، وسيدعم الوجود الأمريكي في المنطقة على حساب الدور الصيني المتنامي. لكن ما يغيب عن الرؤية البراغماتية الداروينية السياسية هو أن شعوب المنطقة لها رؤية ثقافية ودينية وأخلاقية مغايرة عن تلك الرؤية الطوباوية، فلا تعدو السردية التطبيعية عن كونها وصفة لعدم الاستقرار والفوضى، فبدون حل عادل للقضية الفلسطينية لن تنعم المنطقة بالسلم والأمن.