أسّست "إسرائيل" الفتيّة بانتصارها العسكري في العام 1967، لأهمّ انتصارين سياسيّين من بعد ما أنجزته بناء على انتصارها في العام 1948، الانتصار الأوّل كان بتثبيت المرتكز لنفي أصل الصراع، أي إلغاء الاعتراض على وجودها، وتحويل الاعتراض إلى احتلالها المحصّل بانتصارها عام 1967، والانتصار الثاني بخلق قضايا عربية جديدة باحتلال أراض غير فلسطينية، ومن ثمّ الدفع بالعرب عن فلسطين نحو صراعاتهم الخاصّة مع "إسرائيل"، وهو أمر بدوره كان يؤسّس لإلغاء كون فلسطين "قضية العرب المركزية"، والتجاوز عن كونها من حيثية ما نتيجة هزيمة عربية في العام 1948، فالتجاوز عن مبتدأ الوجود الإسرائيلي، يعني التجاوز عن المسؤولية العربية الأولى في نكبة فلسطين والفلسطينيين!
نتائج الانتصار الإسرائيلي الفادح؛ بدأت بالظهور سريعاً، وهو ما أتينا على طرف منه في المقالة السابقة الموسومة بـ"1967.. ضرورة إسرائيلية وضلالة عربيّة!"، بما يغني عن الاستطراد فيه في هذه المقالة، فقد بدأت الدعوات بالظهور سريعاً للحلّ على أساس القرار الأممي (242)، ولم تكن حرب تشرين/ أكتوبر 1973، إلا فاتحة لتكريس الانتصار السياسي لـ"إسرائيل"، فقد انتهت الحرب إلى القرار (338)، الذي لم يكن أكثر من دعوة لوقف إطلاق النار، ثم التفاوض على أساس القرار (242)، ليتجسّد هذا القرار في مؤتمر "جنيف" في كانون الأول/ ديسمبر 1973، برعاية الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وحضور مصر والأردن و"إسرائيل"، بينما لم تحضر سوريا التي ثُبّت اسمها على الطاولة بوصفها أحد المدعوين للمشاركة.
العودة إلى أطروحة "الدولة الواحدة"؛ عودة إلى الأصل، وتصحيحاً لهذا المسار الطويل والمدمّر والمسموم، والذي انحشرت فيه الحركة الوطنيّة الفلسطينية برمّتها بلا استثناء، وصار الممرّ الوحيد للنظر إلى القضية الفلسطينية، أو إلى الصراع مع المشروع الصهيوني، لكن هل هذا هو الدافع الوحيد، لمن يدعو لتجديد هذه الأطروحة اليوم
وبالرغم من أنّ سوريا لم تشارك في هذا المؤتمر، ولم تحضر مؤتمر الخرطوم السابق عليه بعد هزيمة العام 1967 كما أشرنا في المقالة السابقة، داعية إلى حرب تحرير شعبية، فإنّ من دوافع "الحركة التصحيحية" في سوريا عام 1970، التي انقلبت على الرئيس السوري صلاح جديد، هو الذهاب نحو الموافقة على القرار (242)، وذلك بإغواء ودعم من الاتحاد السوفييتي في حينه، بينما التقطت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ذلك كلّه، على الأقل من بعد حرب تشرين/ أكتوبر 1973، لتتحوّل في مشروعها من "الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية"، إلى "حل الدولتين"، في بداية مراوغة سُمّيت في حينه "الحلّ المرحلي"، و"السلطة الوطنية المقاتلة"، و"برنامج النقاط العشر".
قد يبدو بهذا كلّه أنّ العودة إلى أطروحة "الدولة الواحدة"؛ عودة إلى الأصل، وتصحيحاً لهذا المسار الطويل والمدمّر والمسموم، والذي انحشرت فيه الحركة الوطنيّة الفلسطينية برمّتها بلا استثناء، وصار الممرّ الوحيد للنظر إلى القضية الفلسطينية، أو إلى الصراع مع المشروع الصهيوني، لكن هل هذا هو الدافع الوحيد، لمن يدعو لتجديد هذه الأطروحة اليوم (أطروحة الدولة الواحدة)، أمّ أنّ العودة إليها تستبطن بواعث أخرى؟!
من نافلة القول، ومن الوجهة النظرية الصرفة، إنّ الدولة الواحدة أكثر عدالة من اقتسام فلسطين في دولتين على النحو المقترح، كما أنّها بالنسبة لأهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948، إن تبنّوها، مشروع متقدّم بكثير على انحباسهم تحت سقف "الكنيست" والقبول النهائي بالشرط الإسرائيلي، فضلاً عن توفّره على إمكانات دمج الفلسطينيين في كلّ جغرافيّات وجودهم في مشروع واحد، إلا أنّ مجرّد هذا القول لا يقلّ انفصالاً عن الواقع، عن أطروحة حلّ الدولتين القائمة على المستوى الخطابي الآن، والمنعدمة في أيّ إمكان واقعيّ، والمستجيبة للحيلة الإسرائيلية المركزية منذ هزيمة العام 1967!
ما المشكلة إذن في أطروحة الدولة الواحدة الآن؟!
المشكلة في تلك الدوافع المستبطنة، والتي لا تحاول فقط اقتراح بديل عن "حلّ الدولتين" الفاشل، ولكنّها أيضاً تحاول الإجابة على سؤال: "ما العمل؟"، وهو سؤال يمكن تلوينه بصيغ كثيرة، تعود إلى جوهر واحد، مثل: "ما المشروع الفلسطيني؟"، "لماذا لم ننتصر؟!"، "لماذا لم تحقّق إنجازاً سياسيّاً؟!"، وهذا يعني، حين الجمع بين كلّ هذه العبارات، أنّ العمل يكون بطرح مشروع فلسطيني جديد كفيل بتحقيق انتصار معقول أو إنجاز سياسيّ ظاهر، مما يعني ضمنيّاً أن المشكلة في كوننا لا نطرح المشروع الصحيح والمناسب للقضية الفلسطينية ضمن تعقيداتها الإقليمية والدولية!
المشكلة في تلك الدوافع المستبطنة، والتي لا تحاول فقط اقتراح بديل عن "حلّ الدولتين" الفاشل، ولكنّها أيضاً تحاول الإجابة على سؤال: "ما العمل؟"، وهو سؤال يمكن تلوينه بصيغ كثيرة، تعود إلى جوهر واحد، مثل: "ما المشروع الفلسطيني؟"، "لماذا لم ننتصر؟!"، "لماذا لم تحقّق إنجازاً سياسيّاً؟!"، وهذا يعني، حين الجمع بين كلّ هذه العبارات، أنّ العمل يكون بطرح مشروع فلسطيني جديد كفيل بتحقيق انتصار معقول أو إنجاز سياسيّ ظاهر، مما يعني ضمنيّاً أن المشكلة في كوننا لا نطرح المشروع الصحيح
بغض النظر عن كلّ الدوافع الخلاصية، والتي تعود إلى دافع واحد، مع اختلاف هذه المبادرات كلّها، أي استطالة أمد المعاناة الفلسطينية، والشعور بالاختناق في لحظة الانسداد التاريخي الراهنة، فإنّ الصيغة الذاهبة إلى كون العمل يكون بمقترح مشروع جديد، تستبطن تصوراً خاطئاً عن التعقيدات المهولة للقضية الفلسطينية، وتختزل ذلك ضمنيّاً بتحميل الفلسطينيين المسؤولية، بكونهم تبنّوا المشروع الخاطئ!
بالتأكيد، ليس ثمّة خلاف على كون "حل الدولتين" مشروعاً خاطئاً ومدمّراً، لكن الخلاف في استبطان تصوّر،قد لا يكون معلناً دائماً، وقد لا يصدر عن وعي ظاهر، ولكنه آخر الأمر يؤول إلى باعث ضمنيّ، هو صاحب الدور الأكبر في بلورة هذا التصوّر؛ الذي كأنّه يقول "نحن لم نقدّم مبادرات بما يكفي"، أو "لم نقدّم المبادرات الصحيحة". هذا الأمر يستدعي سؤالاً مقابلاً: هل الانتصار الإسرائيلي المستمرّ حتّى اللحظة سببه أنّنا لم نقدّم المبادرات الكافية أو الصحيحة؟! وهل فشل حلّ الدولتين سببه فقط أنه مقترح خاطئ في نفسه أم أنّ ثمّة عوامل أخرى لا تسمح له بالتحقّق؟! ليس دافع هذه الأسئلة بالتأكيد الإيمان بمشروع مسموم مثل مشروع حلّ الدولتين!
من هنا يأتي التوجس تجاه العودة إلى أطروحة "الدولة الواحدة"، حتّى ممن يرفض مشروع "حلّ الدولتين"، إذ إنّه في منطقة ما يلتقي مع "اليمين العربي"، الذي يفسّر استعصاء الصراع العربي/ الإسرائيلي بكون العرب لم يقدّموا الحلول المناسبة (أو التنازلات الكافية)، فإذا كان مقترح "الدولة الواحدة" فوق التنازلات التي قدّمها العرب، فإنّه من حيث تصوّر المعالجة، وكأنّه يقول بدوره إنّ العرب لم يقترحوا الحلول الصحيحة!
يعني ذلك الغرق في دوّامة المبادرات، التي لم يفعل العرب شيئاً أكثر من صياغتها، ثم الانتهاء بنا إلى الانشغال في سجالات نظريّة فوق واقعية، لأنّ مجرد تبنّي أطروحة الدولة الواحدة، لا يعني التحوّل الميكانيكي نحو الإنجاز السياسي. وإذا كان هذا لا يمنع السعي نحو تحويلها إلى مشروع عمليّ يدمج الفلسطينيين كلّهم، وبغض النظر عن إمكانية ذلك، فإنّه لا بدّ من الانتباه إلى أنّ واجبنا هو مقاومة المشروع الاستيطاني الصهيوني وليس تقديم المبادرات له!
الغرق في دوّامة المبادرات، التي لم يفعل العرب شيئاً أكثر من صياغتها، ثم الانتهاء بنا إلى الانشغال في سجالات نظريّة فوق واقعية، لأنّ مجرد تبنّي أطروحة الدولة الواحدة، لا يعني التحوّل الميكانيكي نحو الإنجاز السياسي. وإذا كان هذا لا يمنع السعي نحو تحويلها إلى مشروع عمليّ يدمج الفلسطينيين كلّهم، وبغض النظر عن إمكانية ذلك، فإنّه لا بدّ من الانتباه إلى أنّ واجبنا هو مقاومة المشروع الاستيطاني الصهيوني وليس تقديم المبادرات لهكلّ المبادرات التي تُقدَّم تخطب استجابة مجتمع المستوطنين (نقصد بالمستوطنين؛ المستوطنين في كلّ مكان داخل فلسطين؛ في الأراضي المحتلة عام 1948 على السواء مع تلك المحتلّة عام 1967)، أي كأنّ مسؤولية الفلسطينيين أن يظلّوا غارقين في تجارب المبادرات حتّى يرضى هذا المجتمع بمبادرة منها. ثمّ مهما كانت واحدة من هذه المبادرات متفوّقة على غيرها، من حيث العدالة، فإنّها ستكون طرف الدوامة الرهيبة نحو الاستمرار في التحويرات والتنازلات، وهذا ما تقوله التجربة التاريخية، ومنطق التحايل الاستعماري الصهيوني.
ذلك مع أنّ الأصل هو العكس؛ أي أن يُقدِّم الطرف المعتدي (وهو الطرف القوي بطبيعة الحال) مبادراته، ثمّ يقرّر الطرف المعتدى عليه (وهو الطرف الضعيف) ما يناسبه منها في لحظة تاريخية ما، وهذا لا يمكن إلا بعد صمود طويل ومقاومة طويلة، إلى حين أن تتغير الموازين الخادمة للطرف المعتدي والقوي، ومن ثمّ فنحن إزاء موازنة في الكلفة، بين أثمان الصمود والمقاومة مهما طالت، وبين الدخول في دوامة المبادرات، والعيش في مكان فوق الواقع!
قد يقال إنّ هذه ليست مبادرة، وإنما هي مشروع، إذ ينبغي أن يكون لنا نحن الفلسطينيين مشروعنا، وهذا صحيح، لكن ما الذي يمنع أن يكون المشروع مثلاً هو "تفكيك الكيان الصهيوني"، بما يقطع الطريق على أوهام أن المشكلة في قدرتنا على إقناع مجتمع المستوطنين، أو إقناع الرعاة الدوليين لمجتمع المستوطنين! هل حقّاً تدعم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا الكيان الصهيوني خشية من "رميه في البحر"؟! هذا التصوّر أقرب للنكتة، وبقدر ما تبدو العودة لمقترح الدولة الواحدة، عودة أكثر إلى أصل القضية، فإنّ الانشغال في إقناع الغربيين من هذه الحيثية، سيأخذ أشكالاً أكثر عمقاً من التحويرات على الوعي الفلسطيني والعربي للقضية الفلسطينية.
لا يمنع ذلك كلّه أنّ البعض يطوي على نوايا طيبة، للسعي إلى إخراجنا من مستنقع "حلّ الدولتين" وما أوصلنا إليه من استعصاء وانسداد، لكن ينبغي عليه أخذ ما سلف بعين الاعتبار، ولا سيما بخصوص هذا الغرق اللا نهائي في اجترار المبادرات، أو الوهم بأنّ مبادرة ما هي الحلّ السحري لقضيّتنا، أوّ أن مشكلتنا في قدرتنا على الإقناع، إقناع مجتمع المستوطنين أو رعاتهم الدوليين. ثمّ إنّ أيّ مشروع ينبغي أن يتأسّس صراحة، وفي برنامج عمليّ، على أرضية الصمود والمقاومة، فهذه الأرضية وحدها التي أبقت قضيّتنا قائمة، ووحدها التي تعيد شدّ أنظار العالم إلينا، ووحدها التي تقلق هذا العدوّ في بلادنا وتؤكّد له كلّ يوم أنّ وجوده مسألة وقت مهما طال!