سُلّم خشبي ثابت، من خمس درجات، يعتلي الشباك الأيمن فوق دكة الواجهة العليا لكنيسة القيامة على مدى 3 قرون من الزمان حتى يومنا هذا. سُلّم لا ينتمي البتة لتفاصيل المكان المقدس، وليس له أي رمزية دينية، بات من ثوابت المكان التي لا تتزحزح. تعود قصّة السّلّم لتنازع الطوائف المسيحية المختلفة على حقوق امتلاك كنيسة القيامة، فكانت كل منها تحاول فرض ملكيتها على الكنيسة أسوة بالقانون العثماني السائد حينها، والذي ينص: " أنّ مَن يمتلك السقف.. يمتلك المكان". استمرت الطوائف بالتخاصم والاعتراك فيما بينها، حتى ضاق السلطان العثماني عبد المجيد ذرعا من مناوشاتهم، وأقرّ حينها فرمانا يدعى "اتفاقية الوضع الراهن"، أو ما يعرف بالستاتوس-كو (Status quo)، جُمّدت على إثره موجودات الكنيسة في لحظة زمنية تم التقاطها في الثاني من آب/ أغسطس 1852، وقد حدث وأن كان السّلّم حينها محتلا الواجهة الزجاجة للشباك الأيمن، وظلّ هكذا منذئذ.
رمزيا، يعدّ السّلّم شاهداً على انقسام الكنيسة، حيث أكدت وثيقة "الوضع الراهن" والتي تم إقراراها كاتفاقية دولية في مؤتمر برلين الدولي عام 1878 على إلزام الجميع بعدم تحريكه إلا بموافقة جميع الطوائف، وهو للأسف شرط عصيّ وسط الخلاف الدائم والمُمِلّ للطوائف المسيحية والدّال على شرذمتها.
تاريخياً، أًصبح اصطلاح "الوضع الراهن" يُستخدَمُ بعد كل حرب واشتباك، كما تستخدم المحاصصة في كل تِركة أو انتخابات، فهي تنصّ بإعادة الوضع إلى سابق عهده بحيث لا يتمكن أي طرف من الربح أو الخسارة. ومع مرور الوقت، أصبحت المحاصصة تحمل دلالة جديدة إضافة إلى ميزة "الوضع الراهن" لارتباطها بالاستقرار وتجنّب المخاطر التي يمكن أن تفرضها التغييرات الجذرية. هذا بعينه ما يحصل في نقابة الصحفيين الفلسطينيين: "سُلّم المحاصصة الثابت"، إذ يتفق الجميع لوهلة على عدم تحريكه، حفاظا على حقهم التاريخي في المكان، وديمومة حجز مقعد في كل حقبة جديدة، متخوفين من أي مستجد قد يطرأ.
نقابة الصحفيين وكعب أخيل
تكمن مصلحة كل صحفي/ة بالانتماء طواعية تحت هذه المظلة، إدراكاً منه/ا بأهمية دورها. لطالما تمنى الصحفيون/ات باستظلال المنتسببن/ات من أفراد الجسم الصحفي بفيئها، إلا إن استمرار النقابة المهجورة الانتخابات منذ أكثر من 10 سنوات بنهج عقيم وخلق بيئة مشكوك فيها، مقصية من تشاء، ومشركة من تشاء، في فترة تُستأنف فيها دمقرطة النقابة بعد ضغط كبير مارسه الصحفيين/ات عليها في آب الماضي، وبدلاً من إصلاح أوضاعها وتصويبها واستعادة تماسكها تحضيراً لانتخابات نزيهة وشفافة، تُعمِلُ فيها مبدأ الشراكة مع أصحاب المصلحة الحقيقيين؛ ساهمت في نفور الصحفيين/ات منها، كما وأثارت عدة ملفات على طاولة النقاش.
فقوس وخيار!
يرى الصحفيون/ات بأن التغيير المنشود يبدأ من الداخل، وبالانخراط العضوي في النقابة. بعيداً عن نقاش تسجيل النقابة كجمعية خيرية فحسب، وعدم وجود حزمة من الامتيازات الجمْعية التي توفرها لمنتسبيها لحفظ حقوقهم من تأمين صحي أو غيره؛ يبقى الدفاع عن سقف الحقوق والحريات الدافع الرئيس والقيمة الوحيدة للانتساب للنقابة، لكن المحاباة لإشراك الخيار والدفاع عنه وإقصاء الفقوس و"فعصه" أو بالعكس، يزيد من الفجوة ويعمّقها.
مخرجات المؤتمر الاستثنائي: مفصّلة على المقاس
تصاعدت وتيرة الأحداث، بل تدهورت إزاء عقد مؤتمر استثنائي لم يكن له داع أصلاً، قاطعته العديد من الأجسام الصحفية، حيث حاولت الأمانة العامة لنقابة الصحفيين شرعنة نظام داخلي جديد، عمل على إرساء دعائم مفصّلة على المقاس، إضافة الى جملة من الاجراءات المشكوك بنيّتها، كإرباك الجسم الصحفي وتضليله بنشر النظام الداخلي المعدل على موقعها قبيل اعتماده في المؤتمر الاستثنائي، ثم إعادة النظام الداخلي المعتمد من الهيئة العامة والخاص بعام 2011 حسب الأصول بعد إثارة الصحفيين/ات الموضوع في الإعلام، وتخلل المؤتمر للعديد من الاشكاليات التنظيمية الجدية، والتي عبّر عنها الصحفيون/ات، كما صرّح عنها ممثلو الهيئة المستقلة لحقوق الانسان في أكثر من مقابلة صحفية، من حيث: آلية قبول الصحفيين/ات في عضوية الهيئة العامة، وعدم نشر سجل العضوية حينئذ، وعدم إعمال مبدأ التشاركية بين كافة الأطر الصحفية حول البنود الأساسية قبيل طرحها في المؤتمر الاستثنائي، وآلية التصويت الشائكة على بنود مقترحة في جدول أعمال، وأخرى لم تكن، وإنما ظهرت فجأة، وضبط المشاركين في المؤتمر عبر بطاقات للحضور وأخرى للانتخاب، وآلية التوثيق المبهمة وغير الواضحة، الأمر الذي عمّق الفجوة بين الجسم الصحفي والنقابة، لكنه لم يكن حينها الفيصل أو "القشة التي قسمت ظهر البعير" في تبلور موقف رافض للانخراط في اللعبة حينئذ.
غياب أدنى مقومات العمل الديمقراطي واستمرار إقصاء اللاعبين الأساسيين
لطالما تطلع الصحفيون/ات لممارسة العمل الديمقراطي في نقابتهم، وقد كانت المشاركة فيها خياراً جدياً، وفرصة لإحداث تغيير إيجابي يعكس تطلعات المجموع، لكن استمرار غياب أدنى مقومات العمل الديمقراطي واستمرار إقصاء اللاعبين الأساسيين من النقابة، وعدم تصويب ملف العضوية كمفتاح لإصلاح حال نقابة الصحفيين، وما تبعه من تكرار خروقات قانونية ممنهجة حَدَّت من هذا الخيار، وخلقت انطباعاً لدى المجموع حول منظومة علاقات قوة يصعب على الصحفي/ة اختراقها، الأمر الذي باعد بين الصحفيين/ات والنقابة التي لطالموا حلموا بها، فلخصت أسبابهم بـِ: غياب قيمة النزاهة ومبدأ الشفافية، والاستمرار في سياسة الانغلاق وتجاهل الإعلاميين/ات رغم انطباق شروط العضوية عليهم، وضمّ أسماء عجيبة لا تمتّ للعمل الصحفي بصلة، وعدم نشر محاضر الاجتماعات والتقارير السنوية، وتكذيب الصحفيين/ات على الملأ رغم وجود أدلة مادية لديهم، وعدم الاعتذار عن الأخطاء المرتكبة بحقهم، والإمعان في عدمية المساءلة والمحاسبة بالرغم من اختراق القوانين وارتكاب مخالفات جسيمة ما راكم الوضع سوءاً، وأوصل الصحفيين/ات حدّ مقاطعة مسرحية الانتخابات، رديئة التمثيل والإخراج، بينما تستمر زمرة من الأشخاص جاهدة إسقاط صفة "الديمقراطية" عليها، لكنها في الحقيقة تهيمن لترسيخ الحزبية الضيقة، وتكريس مبدأ المحاصصة على حساب العمل المهني والنقابي، حفاظاً على مصالح أشخاص بعينهم.
قائمة يتيمة لا غير
إن وجود قائمة واحدة مرشحة في انتخابات نقابة الصحفيين تعكس بؤس الحال، ما يستوجب وقوف المؤسسات الرقابية بشكل جدي على أسباب مقاطعة شريحة كبيرة من الصحفيين/ات انتخابات النقابة، واستشعار خطورة ما يمر به جسم السلطة الرابعة، والذي من المفترض أن يكون حليفهم، على نحو تتضافر جهودهما سوياً وتتقاطع في الرقابة على الشأن العام في البلد، إضافة الى تشخيص البيئة المصاحبة لعملية دمقرطة النقابة كما يتم الادعاء، مقابل بذل المتنفذين في النقابة جهوداً لإعادة إنتاج ذاتهم بحلّة جديدة، وإفراغهم العملية الديمقراطية من مضمونها، والحيلولة دون التداول السلمي للسلطات وصيرورة التغيير وضخّ دماء جديدة وشابّة في جسم النقابة، بل إبقائها مرتعاً للاستحواذ الحزبي الذي يحقق تطلعات فردية ضيقة على حساب التطلعات الجمعية التي تحاكي المصلحة العامة الفضلى، ناهيك عن تدخل أطراف سياسية في النقابة بغية السطوة عليها واختطافها، واستخدامها بوقاً رسمياً من أبواق السلطة الحاكمة، ما يجعل الممارسات الملتوية مركّبة وترقى لشكل من أشكال الفساد السياسي.
إن لم نكسر السّلّم، فلنزحه جانباً!
أشعر بالخجل في كل مرة أزور فيها كنيسة القيامة، وأرى السلم المعهود، ثابتاً لا يتحرك شاهداً على انقسامنا، تماما كما أشعر بالخجل من تعزيز فكرة المحاصصة بدلا من العمل النقابي والمهني في نقابة الصحفيين الفلسطينيين. لقد ولّى مفهوم المحاصصة الضيق، ولم يعد أداة ناجحة ولا حتى فعالة في تشكيل الأجسام النقابية.
قبل خمس سنوات فقط، أي في عام 2018، جمّد الاحتلال الاسرائيلي حسابات كنائس القدس لإجبارها على دفع الضرائب، فما كان من الطوائف المسيحية أن توحّدت مجتمعة – ولو لبرهة من الزمان- متناسية خلافاتها إزاء قرار مستعمِر يحاول بشتى الطرق تفتيت تماسك كل نسيج فلسطيني، وكخطوة احتجاجية رمزية؛ حَرّكَ ممثلو الطوائف في القدس "السلم الثابت" في إشارة إلى تناسي خلافاتهم واجتماعهم على الرفض القاطع للقرار الإسرائيلي، لكن لم يمتلك أحدهم الجرأة لكسره أو إزاحته، فاعتلى السدة الزجاجية من جديد. لا أدري متى سنجرؤ على إزحةّ سلّم القيامة، ليقتصر استخدامه على إضاءة قناديل الكنيسة فحسب، أو تنظيف واجهاتها، كما لا أعرف متى سنجرؤ على إزاحة سلّم المحاصصة المقيت، والانخراط في العمل النقابي البحت، أقلّ ما في الأمر، وفاءً لدماء زملائنا من شهداء وشهيدات الكلمة الحُرّة