يحاول رئيس وزراء الحكومة الأكثر فاشيةً في تاريخ الكيان الاستيطاني المؤقت في فلسطين المحتلة بنيامين نتنياهو، الخروج من المأزق المُركب الذي سقط في وهدته، حين أطلق العنان لمستوطنيه بالهجوم المفتوح على المسجد الأقصى، وتدنيسه في معظم أيام الأسبوع، بل التجرؤ على ممارسة عدد من الطقوس التلمودية، وهم يعيشون أضغاث أحلام أساطيرهم المزعومة ببناء ما يدّعونه بالهيكل الثالث بديلًا لقبة الصخرة المشرفة.
وحين اتخذ نتنياهو قراره بوقف الاقتحامات في الأيام العشرة الأواخر لشهر رمضان الفضيل، إنما جاء بادئ ذي بدء نتاجًا لهذا الصمود العظيم لأبناء شعبنا الفلسطيني في قدس الأقداس، القبلة الأولى، مسرى النبي الكريم وبوابة السماء، واستعدادهم لمواجهة قطعان المستوطنين وسوائب جيش الاحتلال الفاشي أَيًّا كانت التضحيات، إلى جانب هذه الوحدة الراسخة لكل فِئات المجتمع الفلسطيني في كل ساحاته استنادًا لجهاد أشقائهم المرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى المبارك، وقد زحفوا من ضفة القسام ومن مدن وقرى فلسطين المحتلة عام 1948، وتنادى لكل ذلك قطاع غزة العزة الذي بدأ بقصف جيش العدو ومستوطناته.
ولم يكُن مصادفةً أن تتحرك كل الجبهات من جنوب لبنان لتقصف بعشرات الصواريخ تجمعات هذا الكيان شمال فلسطين، وقد شاركت في تنسيق استبشر به كل الشعب الفلسطيني تلك القذائف الصاروخية التي انطلقت من أرض سوريا الشقيقة.
ووفقًا للتقديرات الاستخبارية الصهيونية، بأن هذه الإطلاقات المباركة، قد نُسّقت من حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
وتُجمعُ تلك التقديرات الأمنية والعسكرية في (تل أبيب) أن "حماس" وصلت إلى مستوى متقدم لإحياء وتفعيل دور مقاومة الشعب الفلسطيني اللاجئين في أقطار الطوق العربية المجاورة.
بل وأكدت أوساط العدو أن "حماس" تربط القول بالفعل أن القدس هي مركز الصراع، وأنها العامل الحاسم لوحدة الشعب ومركز بوصلة مقاوميه، وأن العدوان الآثم على المدينة المقدسة والتصعيد الجاري في المسجد الأقصى، والصراع على السيادة فيه، هي مرجع كل ما يجري، وأن استمرار ذلك يشبه في تفاصيله معركة "سيف القدس" في أيار 2021.
ويقول مدير "معهد دراسات الأمن القومي" تمير هايمن: أن ما حصل "كان إطلاق نار فلسطيني واسع النطاق من لبنان –ومن سوريا– وقد لا يكون حزب الله أو سوريا، ولكن يَصعُب التصديق أن حلفاء المقاومة ليسوا على عِلم به".
ويرجّحُ هايمن الذي شَغَل في السابق منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، أن التفسير الفوري لهذا التصعيد أنه رد فعل لما يحدث في القدس والأقصى، الذي يعده الفلسطينيون تدنيساً للمسجد الأقصى، كجزءٍ من التعريف الواسع الذي نشأ في الساحة الفلسطينية والعربية.
كما يرى القادة الأمنيون والعسكريون الصهاينة أن هذا يثير قلقًا جديًّا وغير مسبوق للدرجة التي وصل إليها مستوى التنسيق ووحدة العمل لدى محور المقاومة.
ويعتقد هايمن كذلك أن العامل الداعم لهذا التصعيد هو شعور قيادات "حماس"، والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بثقة عالية أمام التطورات التي تعكس وحدة الساحات، وتحديدًا بعد معارك "سيف القدس" حين كانت كلمة الشعب واحدة والتي تمتد في كل الوطن المحتل، ويرى أن هذا ينبع أيضًا من مجريات عملية مجدو، وصمود المقاومة وبأسها في قطاع غزة، وتفاعل الساحة السورية وصواريخها، وإطلاق الطائرة المسيّرة، وضعف الردع لجيش الاحتلال.
ولكن قيادة العدو ومن يرسمون خُططه يعلمون يقينًا أن محور المقاومة وصل إلى مُستوى من النضج، وقد راكم نقاط قوة تُمكنهُ من ردع ووقف مغامراته الحمقاء وردها إلى نحرْهِ، وما العجز عن اتخاذ أي قرار سياسي هجومي، إنما يعود إلى حقائق رسَّخها صمود جبهة المقاومة على امتدادها من طهران مرورًا ببغداد ودمشق وبيروت حتى أعماق كل الوطن الفلسطيني وصولًا إلى غزة المقاومة، وما تفرضه من تآكل لقدرات ردع جيش العدو وفرض معادلة توازن الرعب، ومراكمة نقاط قوة تحدث خطوةً خطوةً تَحولًا في موازين القوى، والتي تمتد اليوم لتحدث زلزالها على الوضع الداخلي لكيان العدو.
وفي تقرير صدر مؤخرًا عن "دائرة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية" –أمان– حذرت فيه من التراجع الخطير في الوضع الإستراتيجي للكيان، تحت وطأة تآكل دوره ووظيفته، أمام الضعف الذي يعتريه والشرخ الداخلي الذي يعصف به.
ويشير التقرير إلى أن هناك تراجعًا حقيقيًا لقوة العدو السياسية والأمنية والعسكرية إقليميًا ودوليًا، وبدء تحوّله إلى عبء على صانعيه، كما في نموذج نظام الفصل العنصري توأم نظام الكولنيالية الصهيوينة، حين هوى هناك في بريتوريا عام 1994.
وبالرغم من أن النقد الأمريكي لدولة الاحتلال ناجم عن الحرج الذي تُسَببه ممارسات حكومة اليمين الديني الصهيوني، في محاولة لحماية الكيان من حماقاته الهوجاء، إلا أن هذا لا يُخفي حقيقة يقين الولايات المتحدة أن الكيان بدأ يجتر نفسه وقد بدأ يعيش مرحلة العد التنازلي، وقد ذهب إلى غير رجعة قادته التاريخيين الذين حقنوا الحياة في أوصاله النَخِرةَ إلى حين.
ويعتقد كثير من المُحللين أن عجز نتنياهو عن اتخاذ قرار العدوان، بالرغم من اللقاءات الماراثونية للكابينيت، لم يكن تأجيلًا تكتيكيًا للحظة موائمة لذلك، كما في عديد المحطات، ولكنه ناجم عن عجز إستراتيجي، ولا بد من التأكيد هنا أنه غير مسبوق، ويشي بمتغيرات تحدث لأول مرة ولها ما بعدها فيما سَيَسِمُ هذا الاحتلال في قادم الأيام، مع بدء تداول عقدة الثمانين عامًا تلك التي عصفت بدولة سليمان وداود، أو ما يقارب ذلك لدولة الحشمو نائيم وهي المستوطنة التي أقيمت غرب محافظة رام الله والبيرة في ذلك الزمان الغابر وما نعيشه هذه اللحظات مع كيان فاشي عنصري ظالم يقترب من عامه الخامس والسبعين.