دعوة السعودية لبشار الأسد لحضور القمّة العربية التي سوف تُعقد في الرياض في أيار/ مايو المقبل، غير مستبعدة، ليس فقط لأنّ الأخبار التي تحدّثت عن ذلك أخيراً تبدو موثوقة، وقد سبق لوزير الخارجية السعودية الحالي في آذار/ مارس الماضي أن تحدث عن احتمالات عودة سوريا للجامعة العربية وفشل سياسات عزل دمشق، ولكن في الأساس لأنّ المسار العربي، في العلاقة مع النظام السوري، كان يشير إلى هذا الاتجاه، على الأقل منذ أواخر العام 2015، والدخول الروسي إلى سوريا لصالح النظام وما تبعه من تحوّلات عسكرية، أفضت إلى انحسار الحالة الثورية داخل سوريا في بعديها العسكري والشعبي، انتهاء إلى الوضع الراهن، مروراً باستعادة العلاقات الإماراتية السورية الرسمية، ومع موقف للنظام المصري الحالي واضح الانحياز منذ البداية إلى النظام السوري، لم تكن في سياقه زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لدمشق إلا واحدة من تجلّياته.
لا جديد والحالة هذه، بيد أنّ اللا جديد هذا يستدعي الكثير لقوله، ابتداء من الموقف العربي من الحدث السوري، بما يستعيد سؤالاً غريباً في حضوره، إذ هو سؤال بدهيّ بما يجعله ساذجاً لشدّة بداهته، إلا أنّه جوهريّ في الوقت نفسه، وبالرغم من ذلك كان ثمّة افتقار وعي دائم لبداهته تلك، وهو عن صدقية الموقف العربي الرسمي، في دعم ثورة شعبية على نظام مثّل ركناً أساساً في النظام الإقليمي العربي منذ بدايات ستينيات القرن الماضي، وأتقن لعبة التوازنات فيه بما ضمن له الاستمرار في حقل من السياسات والخطابات المعقدة التي انتهجها.
صدقية ذلك الموقف ليست موضع شكّ فقط لما سبق قوله، ولكن أيضاً لأنّ بنية النظام الإقليمي العربي، في أصل تكوينها وعلى مدار العقود الطويلة الماضية من عمر هذا النظام، لم تكن أبداً داعمة على نحو مبدئيّ لأيّ حركة جماهيرية
صدقية ذلك الموقف ليست موضع شكّ فقط لما سبق قوله، ولكن أيضاً لأنّ بنية النظام الإقليمي العربي، في أصل تكوينها وعلى مدار العقود الطويلة الماضية من عمر هذا النظام، لم تكن أبداً داعمة على نحو مبدئيّ لأيّ حركة جماهيرية، وقد كانت ملاحظة ذلك ممكنة، حتى من الأنظمة التي تصف نفسها بالثورية والتقدّمية، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي (النظام الناصري، ونظاما البعث في سوريا والعراق)، في دعمها للثورة الفلسطينية في صراعاتها مع الأنظمة الموسومة بالرجعية من الأنظمة "الثورية التقدّمية" ذاتها. لقد كان الموقف الداعم لقوى الثورة الفلسطينية في مواجهة أنظمة "رجعية" أو "يمينية انعزالية" استخداميّاً، في سياق التوازنات العربية الداخلية، ولأجل تعزيز أوراق القوّة في موقف كلّ نظام عربيّ في المنظومة الدولية.
وليس ثمّة حاجة للعودة كثيراً إلى الوراء، إذ كان المشهد الجاري يشهد على نفسه، ابتداء من تشكّل تحالف مصالح داخل النظام الإقليمي العربي معاد لما سُمّي بالربيع العربي، ثمّ من أنماط الدعم التي قُدّمت للقوى المناوئة للنظام السوري، وكيفيات ضبط تلك القوى، بما كان يمنع أيّ تحوّل مثير وجدّي في الحالة السورية، لأنّ سوريا بما هي عقدة استراتيجية، من تمثّلاتها محاذاة الكيان الإسرائيلي، وبما قد صارت عليه من ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات واختبار التوازنات، أفضت إلى استعصاء مستحكم، وهو ما كان يعني بالضرورة أنّ الحالة الجماهيرية لم تكن في حسابات أحد، بلا استثناء، من الداعمين الإقليميين أو الدوليين!
إذن، كان هذا مساراً قائماً بنفسه، حتى دون التفاهم السعودي الإيراني الأخير. وليس ثمّة حاجة لطرح الأسئلة الأخلاقية، عن تصفية الحسابات تلك كلّها على عظام الناس وجلودهم، ما دامت المآلات ستكون على هذا النحو، إذ سبق القول إن الجماهير ليست في وارد أحد، ومن ثمّ لا وزن لهذا النوع من الأسئلة لدى الأطراف المسؤولة، وإن كانت التجارب السياسية في أرواح الناس واستقرارهم وعمار بلدانهم، من مآسي هذه المنطقة، وكأنّها الثابت الآخر فيها، بعد ثابت حماية "إسرائيل".
كان هذا مساراً قائماً بنفسه، حتى دون التفاهم السعودي الإيراني الأخير. وليس ثمّة حاجة لطرح الأسئلة الأخلاقية، عن تصفية الحسابات تلك كلّها على عظام الناس وجلودهم، ما دامت المآلات ستكون على هذا النحو، إذ سبق القول إن الجماهير ليست في وارد أحد، ومن ثمّ لا وزن لهذا النوع من الأسئلة لدى الأطراف المسؤولة
في ظرف معقّد كهذا، لا يتعاطف فيه النظام الإقليمي العربي مع حركة جماهيرية، حتى لو كانت تعمل في حدود، كما يفترض، منفصلة عن تهديد مصالحه، وفي إطار قضية خالصة العدالة ظاهراً وباطناً، يفترض كذلك أنّها محلّ اتفاق، كالقضية الفلسطينية، ينبغي على مثل هذه الحركة الجماهيرية أن تعوّل على نفسها، وفق تحليل صحيح للفاعلين في هذه المنطقة، يلاحظ سقف المتوقع من فاعليها بلا أوهام بالمرّة.
هذا التحليل الصحيح، يصدر عن عاملين أساسيين، الأوّل هو فهم بنية النظام الإقليمي العربي، ومنها ما سبق قوله من موقفه من أيّ حركة جماهيرية، حتى لو كانت معادية لـ"إسرائيل"، ليس فقط بسبب الهندسة الاستعمارية للمنطقة، ومن ثمّ موقع الدول العربية وأنظمتها من هذا التشكيل الاستعماري، ولكن أيضاً بسبب حالة التحفّز الدائمة ضدّ أيّ حركة جماهيرية، بما يصوغ السياسات الرسمية العربية نحو تحطيم تلك الحركة أو إعادة استيعابها. وأمّا العامل الثاني، فهو التجربة التاريخية، التي ظلّت تشهد لصوابية هذا التحليل، وبما يثير الاستغراب من الغفلة الدائمة عنه.
هذا التحليل يوجب على من يتشبّع به، أن يقطع تماماً مع أيّ آمال على هذا النظام الإقليمي، لأنّ تلك الآمال لن تنتهي بالحركة الجماهيرية، إلا إلى الخيبة أو الاستيعاب في المسارات الخاطئة، دون أن يعني ذلك الكفّ عن التكتيك الذي لا يطغى على الإستراتيجيا التي تقرأ بنية هذا النظام ومساراته التاريخية جيداً.
حركة مثل حماس، من موقعها في قضية بالغة التعقيد الواضح بما يغني عن الشرح والبيان، وفي إطار مسؤوليتها الجسيمة، سعت لمراجعة العقْد الماضي. وهي وإن كانت قد احتفظت بعلاقتها بإيران للأسباب التي يغني وضوحها كذلك عن الشرح، كانت قد استعادت أخيراً علاقتها بالنظام السوري. وإذا كان سؤال الاستفادة السياسية من هذه الخطوة ما زال حاضراً، فإنّ على هذه الحركة التي اجتهدت بمراجعة كهذه أن تعوّل على نفسها، بوصفها حركة جماهيرية ذات مهمّة تحررية، بعيداً عن خيبات الإقليم العربي، أو اشتراطاته الاستيعابية المناقضة تماماً لمهمّتها التاريخية، ظلّت تواجه بالهجوم، الذي أقلّه النقد القاسي، وصولاً للإسقاط الكامل والشتم المهين، سواء من الآلة الإعلامية للدول بنخبها ومثقفيها، تحت عنوان الموقف من إيران أو من النظام السوري، وإن كانت حقيقة الموقف معاداة الحركة بما هي عليه حركة جماهيرية بمهمّة تحرّرية، أم من نخب ونشطاء يفترض بهم أنّهم في موقع النصير للفعل الجماهيري والشعبي، ولكن إمّا أنّهم يحمّلون حماس عبئاً أخلاقيّاً لا يراعي تعقيدات الواقع بوصفها مجلى الفعل الأخلاقي، أو أنّهم بدورهم لهم حساباتهم التي تراعي القويّ أكثر ممّا تراعي الضعيف، ممّا يأتي على أصل ادّعاء النصرة بالشكّ!
الذين أوسعوا حماس سبّاً، لمراجعتها لآخر عشر سنوات، واتخاذها سياسات بدت في ظاهر الأمر سابقة لما يجري في الإقليم العربي الآن، سوف ينقلبون على ما كانوا يقولونه. لن تعود النبرة تجاه إيران هي ذاتها، وبالتأكيد النبرة تجاه الموضوع السوري برمّته كانت قد تغيرت
لم تكن مشكلة حماس فقط مع هذا الطرف المعارض لسياساتها تجاه إيران، أو سوريا أخيراً، بل حتى من تجليات في "الطرف الثوري"، كان يصادر في خطابات نخب ومثقفين فيه، على الحركة حقّها التعويل على نفسها، وامتلاكها قراءة خاصّة بها، لتعقيدات ظرفها ومنطقتها وقواها، ومن ثمّ رسمها خارطة مصلحية تناسب تلك القراءة، وتسعى فيها الحركة لحفظ نفسها، وذاتها المستقلّة، وسط توازنات قاسية. في حين أنّ لدى هذه التجليات، التي كانت دائمة النقد لعلاقات الحركة الخليجية، استعداداً راسخاً لتسويغ كلّ تحوّلات العلاقات الإيرانية أو السورية تجاه الخليج، بل وتجاه أيّ أحد، وعلى نحو غرائبيّ أحياناً في ذهابه بعيداً، وبما ينقض كلّ ما كان يقوله من خطاب عنصري مهين، لا عن دول الخليج وأنظمتها السياسية فحسب، بل عن شعوبها وأهلها وسكّانها. فالبعض اليوم منهم، تستخفّ به الحماسة للحديث عن تحالفات متمرّدة على الولايات المتحدة، فقط لأجل التفاهم السعودي الإيراني!
في المقابل، الذين أوسعوا حماس سبّاً، لمراجعتها لآخر عشر سنوات، واتخاذها سياسات بدت في ظاهر الأمر سابقة لما يجري في الإقليم العربي الآن، سوف ينقلبون على ما كانوا يقولونه. لن تعود النبرة تجاه إيران هي ذاتها، وبالتأكيد النبرة تجاه الموضوع السوري برمّته كانت قد تغيرت، إن كنّا نتحدث عن مثقفي دول، منذ زمن، فقد صارت سوريا عندهم شاهدة على "خطيئة الثورات وما تفضي إليه من فوضى ودمار"، كما أن مثقفين ونشطاء، يفترض بهم الاستقلال عن سياسات الدول، ستكون نبرتهم في نقد الدول، إن انتقدوها، أخفّ من نبرتهم في نقد حماس، ولديهم حجة جاهزة، تُجهِز في الحقيقة على أيّ ادعاء ثوريّ، أو نصرة حقيقية للضعيف، وذلك بقولهم إنّ ضرورات الدول غير ضرورات الحركة الثورية، وهي مقولة غير ثورية بالمرّة، إذ تعتذر للقويّ المستغني وتدين الضعيف المحتاج!