كل خلاف في الساحة الفلسطينية، أو في القضية الفلسطينية، يبدأ حول فلسطين لمن؟ ومن صاحب الحق الحصري في تقرير مصير فلسطين؟ وامتدّ بعد قيام الكيان الصهيوني ليدور حول تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش، ثم تدحرج بدوره، لتدور الخلافات حول الاستراتيجية التي تحقق هدف تحرير فلسطين من خلال مواجهة السلاح الصهيوني بسلاح المقاومة، أو مواجهة ما أُخذ بالقوّة بقوّة مقابِلة، وما دُعِم وتكرسّ بالدعم الإمبريالي العالمي، يُردّ عليه بالحشد العربي والإسلامي، وأحرار العالم.
وهذه الاستراتيجية غير ما طرح من استراتيجية التسوية، والرهان على الدول الكبرى، وعلى قرارات هيئة الأمم، أو القبول بحلّ الدولتين.
وكانت هنالك خلافات تفصيلية نشأت حول كل مرحلة مرّت بها القضية الفلسطينية، ومرّ بها الصراع، وموازين القوى. ولعل من أهم ما نشأ من خلافات تفصيلية دار حول شرعية الكيان الصهيوني، أو عدمها، كما حول الاعتراف بدولة "إسرائيل"، أو عدم الاعتراف بها، بل تجريم الاعتراف والصلح والمفاوضات، مما يشكل تفريطاً بالثوابت المبدئية الأولى، التي تحددّت حول فلسطين لمن؟ ومن ثم رفض الاعتراف تحت كل الظروف ومهما اختلت موازين القوى ضد الشعب الفلسطيني.
لعل من أهم ما نشأ من خلافات تفصيلية دار حول شرعية الكيان الصهيوني، أو عدمها، كما حول الاعتراف بدولة "إسرائيل"، أو عدم الاعتراف بها، بل تجريم الاعتراف والصلح والمفاوضات، مما يشكل تفريطاً بالثوابت المبدئية الأولى، التي تحددّت حول فلسطين لمن؟ ومن ثم رفض الاعتراف تحت كل الظروف ومهما اختلت موازين القوى ضد الشعب الفلسطيني
ولهذا فإن إبقاء الكيان الصهيوني مطعوناً بشرعية وجوده من حيث أتى، يشكل موقفاً مبدئياً، وسياسة صحيحة حكيمة، وضمانة مستقبلية للقضية الفلسطينية.
كل هذه القضايا كانت بمثابة مسلّمات بالنسبة للشعب الفلسطيني، والأمة العربية والإسلامية في المراحل الأولى من الصراع، إلى أن بدأت الاختراقات تتفشى في مواقف الدول العربية، من منتصف الخمسينيات، حين تمّ اللجوء إلى المطالبة بتطبيق قرارات هيئة الأمم المتحدة، وفي مقدمها قرار التقسيم، رقم 181 لعام 1947، وقرار 194 لعام 1949 (الخاص بعودة اللاجئين).
أما بعد حرب العدوان، وتوسّع الاحتلال في 1967، هبط السقف العربي إلى تطبيق القرار 242 (تشرين الثاني/ نوفمبر 1967)، والعودة إلى "حدود" خطوط الهدنة، ما قبل الخامس من حزيران/ يونيو 1967.
وجاءت معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية 1979، ومفاوضات مدريد 1991، واتفاق أوسلو 1993، ومعاهدة وادي عربة 1994، وأخصّها وأخطرها بالطبع، اتفاق أوسلو (م.ت.ف) الذي اعترف بالكيان الصهيوني، وتقسيم فلسطين، والتفاوض على أساس 78 في المئة للكيان الصهيوني، و22 في المئة لمنظمة التحرير الفلسطينية، لأن أيّ اعتراف لا قيمة شرعية له، إلاّ الاعتراف الفلسطيني، صاحب الحق الحصري في فلسطين (القانون الدولي)، الأمر الذي نقل الخلافات إلى أمر واقع على الأرض، وليس مجرد خلافات فلسطينية- فلسطينية، وامتدادها عربياً وإسلامياً. ومن ثم راح الاتجاه الشعبي يتسّع أكثر فأكثر في معارضة هذه الاختراقات، ولا سيما في الساحة الفلسطينية حيث فشل اتفاق أوسلو فشلاً ذريعاً، وجعل يتمرغ في الوحول، ومعه سقطت التنظيرات التي كانت وراء ما تمّ من اختراقات، وتراجُع عن أساسات القضية الفلسطينية التي مرّ شرحها أعلاه.
لقد سقطت كل الأوهام التي بنيت على أساس تحقيق "تعايش" أو "إقامة سلام"، أو حلّ لتضع نفسها في قفص الاتهام، بسبب انحرافها المبدئي عن الأساسيات، كما في فهم المشروع الصهيوني واستراتيجيته. ومن يريد التأكد فليرجع إلى ميثاقيّ 1964 و1968 لمنظمة التحرير، أو لمنطلقات فتح، وكل الفصائل في الستينيات.
سقطت كل الأوهام التي بنيت على أساس تحقيق "تعايش" أو "إقامة سلام"، أو حلّ لتضع نفسها في قفص الاتهام، بسبب انحرافها المبدئي عن الأساسيات، كما في فهم المشروع الصهيوني واستراتيجيته
وبكلمات أخرى، تجمعت كل الوقائع، بعد اتفاق أوسلو وتداعياته، وما لحق به من هرولة بعض الدول العربية نحو تطبيع تحالفي مع الكيان الصهيوني، ثم ما رمت إليه صفقة "العصر" الأمريكية، لتقول: لا تتعبوا بحثاً عن حلول، فالمشروع الصهيوني يريد كل فلسطين وترحيل كل الفلسطينيين، والسيطرة على "المنطقة" معانداً موازين القوى، ومسرعاً نحو الفشل.
على أن الشيء الهام الذي بدأ يتشكل في المقابل، بعد اتفاق أوسلو 1993 وتداعياته، هو ما راح يحدث من تغيير في ميزان القوى في غير مصلحة كل من أمريكا والغرب عموماً والكيان الصهيوني من جهة، وما أخذ يتحقق على الأرض من تعاظم لقوة محور المقاومة بعامة، والمقاومة الفلسطينية بخاصة، من جهة أخرى، أي خلال السنوات الثلاثين الأخيرة على الخصوص.
فقد راح الكيان الصهيوني اليوم يزداد ضعفاً مع تورط أمريكا وأوروبا في حرب أوكرانيا ضد روسيا، ومع تفاقم العلاقة الأمريكية- الصينية مما يهدد باشتعال مواجهة نحو تايوان وبحر الصين والمحيط الهادئ. أما على المستوى الداخلي، فإن ما اندلع من تناقض حاد وعدائي قسّم الوضع الداخلي إلى قسمين متعاديين تقسيماً لا مثيل له في تاريخ الكيان الصهيوني. وذلك في ظروف فقدان قدرة الكيان على شنّ الحروب المنتصرة ضد من يتجرأ على معاداته كما كان في السابق. وتراجعت قدراته على مواجهة التحدي الذي مثلته المقاومة المتصاعدة بقوتها في قطاع غزة، كما في مواجهته للسلاح المقاوم الذي ظهر علناً في مخيم جنين وعرين الأسود في نابلس. وتعددت أشكال المواجهات على مستوى الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى، شعبياً وعلى مستوى العمل الفردي، وانبثاق كتائب جديدة.
هذا المشهد المبهر، والاستثنائي على المستويين العالمي والإقليمي (العربي والإسلامي)، كما على المستوى الفلسطيني، يسمح بالقول إن صفحة مسار التسوية واتفاق أوسلو قد طويت، أو في طريقها إلى هذا المصير، وأن صفحة جديدة قد فُتحت وأخذت بالتثبت والتكرسّ يوماً بعد يوم.
أخذ المشهد الفلسطيني بالانتقال إلى مستوى أعلى في تطوير استراتيجية وتكتيك المقاومة المسلحة، والانتفاض الشعبي على الأرض. وراح يحقق وحدة ميدانية واسعة لدعم المقاومة، وحمايتها ودفعها إلى الأمام، في الضفة الغربية والقدس، مما جعل الاحتلال في حالة شلل
لقد أخذ المشهد الفلسطيني بالانتقال إلى مستوى أعلى في تطوير استراتيجية وتكتيك المقاومة المسلحة، والانتفاض الشعبي على الأرض. وراح يحقق وحدة ميدانية واسعة لدعم المقاومة، وحمايتها ودفعها إلى الأمام، في الضفة الغربية والقدس، مما جعل الاحتلال في حالة شلل، والبحث عن رحيل ولو جزئياً، لا سيما إذا ما فشلت المساعي الأمريكية في الإيقاع بين السلطة الفلسطينية، وما نشأ من حالة مقاومة مسلحة علنية في الضفة الغربية. عندئذ لن يبقى أمام الاحتلال إلا البحث عن انسحاب وقد أصبح استمراره أكثر كلفة من الانسحاب.
لقد أصبح الانتصار في هذه الجولة من جولات الصراع يتطلب حشد كل الجهود، وكل النشاطات الممكنة، داخل فلسطين وخارجها، لدعم المقاومة والوحدة الوطنية والالتفاف الشعبي خلفهما في الضفة والقدس وقطاع غزة، بعيداً من كل المشاريع الجانبية، والسعي لتشكيل أطر وبرامج تذهب إلى حوارات مستنزفة لم تنجح في السابق، ولا حاجة إليها إذا ما جعلنا الانتصار في هذه الجولة من جولات الصراع أولوية لا تعلو عليها أولوية.
ولقد حدث تطور هام في وعي بعض النخب حين راحت تركز في وصف الكيان الصهيوني بأنه "كيان استعماري استيطاني إحلالي"، وإن كان الأدق وصفه بـ"استعماري استيطاني اقتلاعي إحلالي". ولكن مع ذلك اقتصر التعريف على هذا الوصف، ولم يتبعه بالتشديد على أنه كيان غير شرعي؛ لأن مسألة الشرعية أو عدمها، مسألة مركزية في الصراع وإدارة الصراع ونهايته. فالقفز دون التأكيد على عدم شرعية وجوده، يشكل خللا متعدّد الأبعاد.
عدم الإشارة إلى لا شرعية وجود الكيان الصهيوني في فلسطين، سمح بتمرير كل ما حدث من مفاوضات وحلول، أو مشاريع حلول غير شرعية وفاشلة. ومن ثم فإن عدم التركيز على عدم الشرعية سمح بطرح مشروع الدولة الواحدة، ذات المواطنة المتساوية، فارضاً هذه المساواة على الفلسطينيين،
إن عدم شرعية الكيان الصهيوني في القانون الدولي كونه استعماراً واستيطاناً وإحلالاً، فضلاً عن حصر الحق في فلسطين وتقرير مصيرها، هما من حق الشعب الذي كان فيها لحظة استعمارها، والسيطرة عليها من جانب بريطانيا عام 1917. ولهذا فالنشأة والتكوّن غير شرعيين، وقرار التقسيم الذي أُعلنت دولة "إسرائيل" بموجبه مخالف للقانون الدولي من جهة، ولميثاق هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين من جهة ثانية، لأنه لا يعطي هيئة الأمم الشرعية في تقسيم أي بلد من بلدان العالم، وتقرير مصيره الذي هو من حق شعبه.
إن عدم الإشارة إلى لا شرعية وجود الكيان الصهيوني في فلسطين، سمح بتمرير كل ما حدث من مفاوضات وحلول، أو مشاريع حلول غير شرعية وفاشلة. ومن ثم فإن عدم التركيز على عدم الشرعية سمح بطرح مشروع الدولة الواحدة، ذات المواطنة المتساوية، فارضاً هذه المساواة على الفلسطينيين، وفارضاً شرعية لمن لا شرعية لهم (استعماريون واستيطانيون واقتلاعيون وإحلاليون).
إن الحلّ الأنسب الذي لا حلّ غيره هو رحيل مَنْ وجودهم استعماري واستيطاني واقتلاعي وإحلالي، ويفضَّل أن تستقبلهم أكثر عواصم الغرب مدنية ورفاهاً وحباً لهم، فيرضى الذين يريدونه حلاً أخلاقياً.