تعيش إسرائيل فوضى عارمة وأزمة غير مسبوقة مفتوحة على مختلف السيناريوهات، بما فيها أسوؤها. فقد أعلن الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية (الهستدروت) الإضراب بدءًا من الأمس، وكذلك الجامعات والمدارس والأطباء والمطار والجمارك وعدد من المحلات التجارية والشركات، بينما بلغ عدد المتظاهرين ليلة الأحد الماضي أكثر من 600 ألف متظاهر.
وما فاقم الأزمة إقالة يوآف غالانت، وزير الحرب، (هناك أنباء عن إمكانية عودته إلى منصبه) بعد مطالبته بتأجيل "الإصلاحات"؛ لأنها اعتبرت رسالة إلى الائتلاف والمعارضين في الليكود بأن مصيرهم الفصل إذا عارضوا الخطة، وهذه الإقالة زادت الهوة بين الحكومة وقادة الجيش والأجهزة الأمنية، الذي عبر غالانت عن مطالبهم ومخاوفهم عندما طالب بتأجيل الانقلاب، وهذا يمكن أن يزيد من التمرد في صفوف الاحتياط، وخصوصًا الضباط والطيارين ومساعديهم، ومرشح هذا التمرد للاتساع إلى داخل القوات العاملة، هذا إذا واصلت الحكومة انقلابها على "ديمقراطية" اليهود، وتحويل إسرائيل إلى دولة دكتاتورية يحكمها شخص واحد مسيطر مع ائتلافه الحاكم على مختلف السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
في المقابل، دعا اليمين أنصاره إلى التظاهر مساء الأمس (الإثنين)، وسط ترقب لخطاب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي تأجل منذ صباح الأمس إلى المساء، والذي أشارت مصادر إعلامية إلى أنه سيتضمن تأجيل إقرار التشريعات القضائية إلى ما بعد الأعياد، مع استمرار التمسك بها، مع الحرص على السعي إلى إقرارها بعد حوار، والتوصل إلى توافق وطني حولها.
نتنياهو يريد إغراق المعارضة بمفاوضات مرهقة وإفقادها الزخم الشعبي
نقطة ضعف نتنياهو أنه بات "فاقدًا للسيطرة" كما صرح بذلك مسؤول في الليكود، وهو لا تثق به المعارضة كونه معروفًا عنه المراوغة والكذب والخداع، لذا ليس من السهل أن تبتلع المعارضة هذا الطعم، وهي تريد وقف وليس تأجيل إقرار التشريعات القضائية، وخصوصًا أن أصواتًا متزايدة من المعارضة غيرت هدفها من المظاهرات والإضراب الذي يمكن أن يتحول إلى العصيان المدني، من إسقاط الإصلاحات القضائية/الانقلاب إلى إسقاط نتنياهو، الذي بات خطرًا على أمن دولة إسرائيل، كما جاء في مانشيت صحيفة "يديعوت أحرونوت" وعدد من وسائل الإعلام والمقالات الإسرائيلية.
لقد فقد الساحر نتنياهو سحره، وهو الذي لقبه أنصاره بملك إسرائيل؛ لما تميز به من قدرات وذكاء مكنه من أن يكون أطول رؤساء الحكومات حكمًا منذ تأسيس إسرائيل، وسيطر على أكبر حزب لأكثر من عشرين عامًا من دون منافس، والآن يجد نفسه في وضع لا يعرف ماذا يفعل؟ وهو محاصر بالنيران من كل جانب.
مواصلة "الإصلاحات" يؤدي إلى أزمة دستورية
فإذا واصل نتنياهو تطبيق انقلابه فستحدث أزمة دستورية؛ لأن المحكمة العليا سترفض أن يكون القانون خاضعًا للحكومة، وبذلك تصبح إسرائيل برأسين، وهذا سيفاقم الفوضى، وسيصل إلى صدام، وربما إلى حرب أهلية، فالجيش الذي له دولة وليس مثل بقية بلدان العالم الدولة لها جيش، والذي يعدّ البقرة المقدسة معرض للانقسام، فهناك نحو 20% من المصوتين في الانتخابات الأخيرة من الجنود والضباط صوتوا لحزب الصهيونية الدينية و40% من الضباط. كما أشارت استطلاعات إلى أنهم يدعمون أفكار هذا الحزب والتطرف الديني والسياسي، ولا يعرف أحد إلى أين يمكن أن يصل الوضع إذا أصرت الحكومة على تشريعاتها القضائية التي ستقضي فيها على القضاء، وبذلك تكف إسرائيل عن كونها دولة ديمقراطية خاضعة لسيادة القانون، وإنما دولة تخضع القانون لخدمة ائتلاف حاكم، والأصح لخدمة أشخاص مجرمين وملاحقين قضائيًا، وعلى رأسهم نتنياهو.
إذا تراجع نتنياهو لا يضمن الحفاظ على رأسه وحكومته
وإذا تراجع نتنياهو عن انقلابه فلن يضمن إنقاذ رأسه وبقاء حكومته؛ لأن حزب الصهيونية الدينية من الصعب أن يبقى في حكومة أو أن يدعمها من الخارج إذا لم تعد تتبنى برنامجه، بما فيها إقرار "الإصلاحات"، فموافقة بتسلئيل سموتريتش على التأجيل وليس على التخلي عن التشريعات، وتهديد بن غفير بالخروج من الحكومة إذا تأجلت مع بقائه في الائتلاف ليس مضمونا بعد التخلي عن التشريعات.
سيناريو بقاء الحكومة ضعيف، ولكنه ممكن
سيناريو بقاء الحكومة مع أنه ضعيف لا يجب إسقاطه من الحساب كليًا؛ لأن حزب الصهيونية الدينية يعرف أنه إذا غادر الحكومة فإنه لن يعود إليها خلال فترة قصيرة، كما أن الاستطلاعات تدل أن مقاعده ستنخفض بقوة، وأن المعارضة هي التي ستفوز في أغلبية المقاعد إذا جرت الانتخابات الآن، لذلك السيناريو المفضل عند المعارضة هو اللجوء إلى الانتخابات، ولكن هذا السيناريو لن يحدث إلا إذا سقطت الحكومة عبر الكنيست، وهذا لن يحدث إلا إذا تخلى عنها حزب أو أحزاب عدة من المشاركين في الحكومة.
في هذا السياق، لا يبقى أمام نتنياهو سوى الاستجابة للمطالبين بتأجيل تنفيذ الخطة/ الانقلاب إلى ما بعد عطلة الأعياد، لمنع تصاعد المعارضة للحكومة التي كفت عن كونها معارضة سياسية، وإنما غدت معارضة شعبية واسعة مرشحة للتصاعد، وهذا الاتجاه للتأجيل بات لا مفر منه بعد بدء تصدع عند بعض قادة الليكود، وحث الأحزاب الدينية في الحكومة على تأجيل "الإصلاحات"، وسيحاول نتنياهو أن يدخل المعارضة في حوار طويل مرهق لإعطاء إكسير حياة لحكومته، ولكسب وقت يمكن أن يفقد المعارضة زخمها الشعبي ووحدتها، وهذا يفتح الباب لسيناريوهات أخرى، مثل تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة ينضم إليها بيني غانتس .
في كل الأحوال، يبدو أن سيناريو وصول نتنياهو إلى نهاية حياته السياسية يقترب بشدة، وهو يحاول البقاء بشكل قسري عبر العناية المشددة، وهو يمكن عند بلوغه لحظة اليأس أن يوافق على ضم يائير لابيد وغانتس، أو الأخير إذا كانوا مستعدين لذلك، مقابل اتفاق على طي صفحة الملاحقات القضائية ضده.
هناك سيناريو جيد لليكود، وهو تنحي نتنياهو بما يسمح بضم أحزاب من المعارضة لحكومة يشكلها الليكود من دون الحاجة إلى اليمين المتطرف الديني والقومي، ولكنه مستبعد لاستمرار تحكم نتنياهو في الليكود؛ ولأن جزءًا من الليكود بات ينافس حزب الصهيونية الدينية على التطرف.
ما يجري نتيجة طبيعية لوجود كيان استعماري يجمع المتناقضات ما بين اليهودية والديمقراطية
إن ما جرى ويجري في إسرائيل نتيجة طبيعية؛ كونها كيانًا استعماريًا استيطانيًا احتلاليًا إحلاليًا عنصريًا، فلا يمكن أن تجمع بين كونها يهودية وديمقراطية واليهودية هي الأعلى؛ أي تكون إسرائيل ديمقراطية لليهود فقط، وهي تضطهد شعبًا آخر فلسطينيًا موجودًا وصامدًا ويقاوم، على الرغم من إنكار وجوده علنًا من سموتريتش، وسرًا وفعلًا من الغالبية الساحقة من النخبة السياسية والشعبية في إسرائيل، في ظل عدم وجود حزب واحد له وزن يعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، الذي يشمل حقه في إقامة دولة فلسطينية على الأرض المحتلة العام 1967، بما في ذلك القدس.
وما يحدث يثبت مرة أخرى أنه لا يكفي أن تكون قويًا وحاصلًا على الأغلبية حتى تنفرد بالحكم، بل تحتاج إلى قدر من الحكمة والعقلانية، فمع التطرف والغباء يمكن أن تخسر كل شيء مهما كنت قويًا، فالصهيونية الدينية أرادت أن تحسم الصراع مع الفلسطينيين فأوصلت إسرائيل إلى حافة الهاوية؛ إذ أصبح الحسم داخل الإسرائيليين، وهذا يقودها إلى مصير أحسن ما يمكن وصفه بأنه مجهول، وكيفية حسم الأزمة الراهنة سيحدد مصير إسرائيل التي ستخرج أضعف في مختلف السيناريوهات والأحوال.
واشنطن مع إسرائيل وضد حكومتها وتحاول إنقاذها من نفسها
كلمة أخيرة حول الغرب بصورة عامة، والولايات المتحدة بصورة خاصة، الذي يحاول أن ينقذ دولة إسرائيل من حكومتها، ولكن بالقفز عن معالجة جذور وأسباب الأزمة وثيقة الصلة بأن إسرائيل قامت على حساب شعب آخر، وتستمر بالسيطرة عليه والتحكم فيه، ولعب دورها الوظيفي ضمن مشروع استعماري يريد إبقاء المنطقة العربية أسيرة التخلف والتبعية والتجزئة والفقر، وهو نجح في ذلك بعض الوقت، ولكنه لن ينجح طوال الوقت، بل لا بد من أن تنهض شعوب وبلدان المنطقة والإمساك بمصيرها، عاجلًا أم آجلًا، ولعل التغييرات التي تشهدها المنطقة مؤخرًا، خصوصًا بعد اتفاق بكين الثلاثي، تمثل أحد تداعيات الحرب الأوكرانية، وتكاثر الإرهاصات والمؤشرات على موت النظام العالمي، وبدء ولادة نظام عالمي جديد.
قد تنقذ إسرائيل من خوض حرب أهلية والزوال حاليًا عوامل داخلية، خصوصًا أنها دولة قانون، وتقاتل أوساط كبيرة من أجل بقائها تضم أحزاب المعارضة والدولة العميقة والنخب الاقتصادية والليبرالية كذلك، وخارجية نتيجة ارتباطها العضوي مع الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، الذين لن يسمحوا بانهيار إسرائيل، وضعف الفلسطينيين والعرب وتفتتهم، وعدم قدرتهم على توظيف المأزق الإسرائيلي الذي يوفر لهم فرصة ذهبية تاريخية، ولكن هذا المصير محتوم ما لم يتغير جوهر إسرائيل بوصفها كيانًا استعماريًا استيطانيًا عنصريًا احتلاليًا إحلاليًا، وكذلك ما لم يتغير دورها الوظيفي في خدمة مشروع استعماري عالمي.
الإضراب حق، وكرامة المعلم من كرامة الوطن
لا تزال الحكومة تركب رأسها، وترفض الالتزام بتطبيق الاتفاق الذي وقعته مع المعلمين، وبدلًا من الالتزام الواضح والقاطع تسعى إلى شيطنة حراك المعلمين، والتهديد بمعاقبة المضربين واستبدالهم، على الرغم من أن الإضراب يعبر عن إرادة غالبية المعلمين وعن مصالحهم جميعًا، وهذا لن يقود إلى فرض السيطرة والهيبة، حتى لو استطاعت الحكومة كسر الإضراب؛ لأن المعلم إذا فقد كرامته وكسرت إرادته فلا يمكن أن يقوم بواجبه، وسيكون ضعيفًا أمام طلابه الذين يجب أن نعلمهم أن كرامة المعلم من كرامة الوطن.
وإلى الذين يسحجون للحكومة ويرددون معها أن الإضراب مسيس وخاضع لأجندات خارجية وداخلية تصب في محاولات إخضاع السلطة، أو حتى التخلص منها، نقول لهم على من تضرب مزاميرك يا داود، فأعضاء حركة فتح وأنصارها هم الذين يشكلون أكبر مؤيدي الإضراب، كما أن السلطة خصوصًا بعد مشاركتها في لقاءي العقبة وشرم الشيخ وتقديمها طوق النجاة لحكومة متطرفة شرعت في تطبيق برنامج الضم والتصفية للقضية الفلسطينية، على الرغم من أنها تغرق نتيجة تطرفها وعنصريتها، وتندمج أكثر وأكثر في منظومة الأمن الإسرائيلية، وليس غريبًا هذا الموقف، فهي أي السلطة، سبقت حكومة نتنياهو بما تفعله؛ حيث تسيطر سلطة واحدة، والأحرى شخص واحد على كل السلطات، فلا يوجد فصل ولا استقلال للسلطات، فكلها تحت قرار الرئيس مع أن المعارضة الفلسطينية لم تشكل معارضة وازنة مثلما يحصل في إسرائيل، على الرغم من أنها تضم معظم الفصائل، ويؤيدها في المعارضة معظم الشعب، كما تدل العديد من المؤشرات والاستطلاعات.
لقد وصل البعض إلى تحريم الإضراب تحت الاحتلال، وذكرني بالقائد الفتحاوي الشهير الذي تحدث مرارًا وتكرارًا عن خطأ إجراء الانتخابات تحت الاحتلال، على الرغم من أنه كان نائبًا ووزيرًا لسنوات عديدة، قافزًا عن أنه إذا كانت الانتخابات خطيئة تحت الاحتلال، فأن تكون وزيرًا ومتمتعًا بامتيازات الـ"في آي بي"(Vip) خطيئة أكبر.
نعم، لا انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها تحت الاحتلال، ولكن الأصل ألا تكون هناك سلطة تحت الاحتلال، فهذه بدعة من بدع أوسلو الكثيرة، وما دامت هناك سلطة يجب أن تكون مساءلة ومحاسبة ومنتخبة، وإذا تعذر ذلك، وهو متعذر، فلا معنى لوجود السلطة، (التي غدت بعد الانقسام سلطتين متنازعتين تفتقدان للشرعية الانتخابية)، بل المصلحة الوطنية تقتضي توحيد السلطتين وإيجاد سلطة واحدة من نوع مختلف، تراعي الاختلاف في الظروف، وتنسجم تمامًا مع مرحلة التحرر الوطني، وتكون في خدمة البرنامج الوطني المشترك، وأداة بيد منظمة التحرير الموحدة.
وفي هذه الحالة، ستتعرض السلطة للاستهداف من الاحتلال، ولكنها ستكون سلطة عادلة، وعندها لن يكون هناك داعٍ في الغالب للإضراب ضدها، ولكن عندما تكون الموازنة مختلة فيها، ويحتل الأمن 20-30% من دون أن يكون لديها جيش، ومن دون أن تقوم بواجبها بالدفاع عن شعبها (ولا أقول الهجوم أو تكون سلطة مقاومة) في وجه اعتداءات قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، وعندما تكون سلطة فاسدة وخاضعة بشكل متزايد للاحتلال من خلال استمرار التزامها بقيوده والتزاماته، حتى بعد موت ما سميت "عملية السلام"، والتعايش والتعاطي مع خططه التي سقفها أمني واقتصادي، وبعد تنصل الحكومات الإسرائيلية من التزاماتها منذ حكومة نتنياهو الأولى العام 1996 وحتى الآن، فلا طريق لتحصيل الحقوق إلا النضال السلمي الديمقراطي القانوني، وعلى رأسه الإضراب والتظاهر ... إلخ.