الحريق الهائل الذي اقترفه المستوطنون في قلب حوّارة، المحاصرة أصلاً بالاحتلال استيطانيّاً وعسكريّاً من كلّ جانب، بالضرورة سيكثّف الحديث عن الساحة الفلسطينية، التي تُعرف سياسيّاً من بعد النكبة بالضفّة الغربية، بعد ضمّها في حينه للمملكة الأردنية الهاشمية، وسوف يختلط هذا الحديث بجملة عناوين سياسيّة، من قبيل "تصاعد المقاومة في الضفّة الغربية"، "موقف السلطة الفلسطينية واجتماع العقبة"، "سياسات اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفاً"، "احتمالات ضرب إيران"، "الاحتجاجات داخل الكيان الإسرائيلي ضد خطة نتنياهو للقضاء"، "الانقسام داخل الكيان الإسرائيلي واحتمالات الحرب الأهلية الإسرائيلية". ولن يغيب حتى عن البعض في أحاديث كهذه، أن يستدعي الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاساتها على اللحظة الفلسطينية الجارية، بالرغم من أنّ هذا الاستدعاء فتر مع طول الحرب عمّا كان عليه أوّل الأمر.
تتفق هذه العناوين المتكاثرة مع الشعور العارم، باختلاف هذه اللحظة التاريخية، وما يمكن أن تنفتح عليه من تحوّلات كبيرة، دون أن ينعكس ذلك في الإعلام العربي، الذي يمنح الموضوع الفلسطيني مكانة متأخّرة على أجندته، أو يتعاطى معه من موقع المراقب خالي الطرف. وهذا وبقدر ما يكشف عن الحالة العربية التي لم تزل تزداد رداءة، من حيث الواجب تجاه القضية الفلسطينية، بلا استثناء مهمّ يُذكر إلا من حيث مستوى التداخل مع الكيان والاستعداد للتطبيع معه أو خدمته، وإلا فإنّ ما يُقدّم للنضال الفلسطيني لا يمكن أن يُذكر حين مقارنته بالنيران التي كانت تلتلهم حوّارة وبالخطر الذي يهدّد عموم الفلسطينيين مع تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بالدعوة لمحو حوّارة، فإنّه، أي هذا الموقف وبقدر ما يكشف عن هذه الرداءة، يكشف عن رداءة أخرى، وهي التأخّر العربي في فهم اللحظة الفلسطينية الجارية، بما في ذلك أوجه معاناة الكيان الإسرائيلي المتعدّدة، والظلال التي يمكن أن تلقيها على الإقليم برمّته.
ما يُقدّم للنضال الفلسطيني لا يمكن أن يُذكر حين مقارنته بالنيران التي كانت تلتلهم حوّارة وبالخطر الذي يهدّد عموم الفلسطينيين مع تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بالدعوة لمحو حوّارة، فإنّه، أي هذا الموقف وبقدر ما يكشف عن هذه الرداءة، يكشف عن رداءة أخرى، وهي التأخّر العربي في فهم اللحظة الفلسطينية الجارية، بما في ذلك أوجه معاناة الكيان الإسرائيلي المتعدّدة، والظلال التي يمكن أن تلقيها على الإقليم برمّته
من جهة أخرى، يعود هذا الموقف، على تعقيدات النضال الفلسطيني الجاري الآن في الضفّة الغربية، إذ يقاتل الفلسطينيون في ظرف من التخلّي الكامل عنهم، إلى درجة السعي لتخليص الاحتلال الإسرائيلي من هذه "المقاومة المتصاعدة"، كما لم يكن لاجتماع العقبة من هدف سوى ذلك. الأمر متداخل إلى درجة تعيدنا إلى هذه الرداءة من جديد، إذ إنّ الموقف العربي، لبعض الدوّل أو لبعض أنظمتها على الأقلّ، يشير إليها وكأنّ مبرّر وجودها هو القدر الذي تستطيع به خدمة الوجود الإسرائيلي، بما يُذكّر بالنظرية الإسرائيلية عن "المناطق العازلة"!
لكن هذا الموقف، عقدة من العقد الكثيرة المتّصلة بحالة المقاومة في الضفّة، والتي يختلط فيها الذاتي الفلسطيني بالموضوعي الإسرائيلي، ليس ابتداء من إصرار الإعلام الفلسطيني بكلّ مرجعيّاته على وصف الحالة القائمة، وكأنّها حالة جديدة بدأت للتوّ، مع أنّها في الحقيقة حلقة في سلسلة متصلة منذ بضع سنوات، كانت كلّ حلقة فيها يُسأل عنها وكأنّها جديدة لا سياق لها، مما يدلّ على مشكلة مزمنة في فهم أنفسنا ذاتيّاً ومن ثمّ الإصرار على الأسئلة الخطأ، بخصوص ما يجري ومآلاته.
على أيّة حال ليست هذه العقدة الوحيدة، فحالة المقاومة الجارية في الضفّة منذ سنوات، وتتحوّر في أنماط متجدّدة تحاول التكيّف مع الوقائع الأمنية المعاكسة، تجري بالرغم من تجريف الحركة الوطنية وفصائلها منذ نهاية انتفاضة الأقصى، وعلى نحو ذاتيّ أكثر وضوحاً منذ ما يُسمّى بالانقسام الفلسطيني، وبالرغم من ذلك يُسأل عن دور فصائل كبرى، كحماس، وموقعها، دون النظر لكل ما وقع عليها وعلى كادر طوال السنوات الماضية، ودون النظر كذلك لكلّ محاولاتها لإعادة ترميم نفسها واستنهاض العمل المقاوم، ودون النظر لعمليات الدفع الجوهرية التي قام بها عناصر منها مثّلت بدورها حلقات مهمة في هذه السلسلة الممتدة.
هذه العوامل كلّها لا تدفع نحو اليأس، بل تجلّي حقيقة المقاومة هذه بما يبرز قيمتها، من حيثيتين، الأولى أنّها تعمل وتجري وتكيّف نفسها في ظرف معقد كهذا، والثانية أنّها بالرغم من كلّ ذلك مستمرّة منذ بضع سنوات، لم تتوقف، وإنما تعيد تجديد نفسها، وتفرض تحديات سياسية وأمنية على مجمل الظرف القائم، لا بما يربك الاحتلال فحسب، بل بما يربك مجمل المنظومة المساندة له، إقليميّاً ودوليّاًلكن الحاصل، أنّ ما يجري عمليات تجريب وتلمّس ذاتي للمسار، من الشبان المقاومين الآن، ليس فقط بسبب عمليات التفكيك والتغييب الممنهج الذي تعرّضت له الفصائل طوال السنوات الماضية، ولكن أيضاً لصعوبة الدفع نحو مقاومة شاملة في ظلّ حالة من الانقسام، وكذلك مع وجود إرادة سياسية سلطوية مناوئة لقضية المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، ومع أوضاع اجتماعية واقتصادية جرى تأسيسها منذ نهاية انتفاضة الأقصى، وتكريسها من بعد ما يُسمّى بالانقسام، بما يجعل عملية المواجهة محاصرة بالبنى التحتية والفوقية الناجمة عن هذه الأوضاع، وبسياسات السلطة، وبنقص الخبرة وبكارة التجربة مع ضعف الإسناد التنظيمي المطلوب، وبالبناء الأمني الإسرائيلي الذي جرت مراكمته وتطويره وتكثيفه من بعد نهاية انتفاضة الأقصى حتى اللحظة، بما يجعل الفعل المقاوم مرصوداً ومحاصراً بالكامل وأقلّ قدرة على المبادأة أو على البناء والمراكمة على المبادأة إن حصلت، وذلك في مقابل استعداد إسرائيلي عال للقتل، والاستباحة، وانفلات استيطاني غير مسبوق.
هذه العوامل كلّها لا تدفع نحو اليأس، بل تجلّي حقيقة المقاومة هذه بما يبرز قيمتها، من حيثيتين، الأولى أنّها تعمل وتجري وتكيّف نفسها في ظرف معقد كهذا، والثانية أنّها بالرغم من كلّ ذلك مستمرّة منذ بضع سنوات، لم تتوقف، وإنما تعيد تجديد نفسها، وتفرض تحديات سياسية وأمنية على مجمل الظرف القائم، لا بما يربك الاحتلال فحسب، بل بما يربك مجمل المنظومة المساندة له، إقليميّاً ودوليّاً، وهو أمر مؤكد بدوره لقيمة الصمود الفلسطيني في ذاته، فضلاً عن أن يكون هذا الصمود متجسداً في فعل المقاومة.