خلال العقود الثلاثة الماضية، وتحديدا منذ بدء تطبيقات اتفاق أوسلو، عملت إسرائيل على فرض معادلة للصراع مع الفلسطينيين تقوم على الاستفراد بهم، واستخدام كل عناصر القوة الغاشمة من أدوات القتل الفتاكة إلى الضغوط الاقتصادية والمالية، والتحكم بكل تفاصيل حياتهم: بحركتهم ومائهم وكهربائهما واقتصادهم وقوت يومهم، لكي تفرض عليهم الحل الذي ينسجم وأطماعها التوسعية الاستيطانية. وفق هذه المعادلة فإن أي تدخل دولي خارجي مرفوض، باستثناء الرعاية الأميركية المنحازة بشكل مطلق لإسرائيل. ثمة أيضا هامش محدود متاح أمام الأوروبيين وبعض الأطراف الدولية المانحة يسمح بتمويل بعض حاجات الفلسطينيين من دون ينعكس هذا التمويل إلى دور سياسي في الصراع والحل. لذلك واجهت إسرائيل بكل قسوة ووحشية محاولات الفلسطينيين الدائبة للفكاك من هذا الاستفراد الخانق.
ردت إسرائيل على إي خطوة فلسطينية بالتوجه للهيئات الدولية بعقوبات وإجراءات عدوانية، معتبرة أن أي توجه من هذا القبيل يمثل "إجراءات أحادية الجانب"، لا بل وصفت التوجه الفلسطيني الذي نجح في استصدار قرار من الجمعية العامة لاستفتاء محكمة العدل الدولية في لاهاي بأنه "إرهاب فلسطيني دبلوماسي"، وانطلت هذه التوصيفات الإسرائيلية على بعض الأوساط الدولية التي باتت هي الأخرى تصف التوجه الفلسطيني لمؤسسات القانون الدولي بالإجراءات الأحادية، وكأنها من نفس طينة الإجراءات الأحادية الإسرائيلية كالمذابح والاجتياحات والاستيطان، وعمليات الهدم والاعتقالات الجماعية والحروب المتكررة على قطاع غزة، ما يفسر الربط الغريب بين الإجراءات الأحادية الإسرائيلية التي هي في مجملها اعتداءات عسكرية وإجراءات قمعية، بينما الفلسطينية لا تزيد عن الاحتكام لمؤسسات القانون الدولي.
لم نعثر على أي تصريح رسمي فلسطيني يفسر أو يبرر ما كشف النقاب عنه من تفاهمات تشمل التزاما فلسطينيا بسحب مشروع القرار المقدم لمجلس الأمن، نظير صدور بيان غير ملزم من رئاسة المجلس، مقابل "وعود" إسرائيلية بخفض التصعيد وتجميد مؤقت لشرعنة بقية البؤر الاستيطانية العشوائية.
المصادر الأجنبية والإسرائيلية وحتى تلك المقربة من الوفد الإماراتي للأمم المتحدة أسهبت في عرض تفاصيل الاتفاق/ التفاهمات حتى أنها ذكرت أنه يشمل تحويل جزء من الضريبة التي تجبيها سلطات الاحتلال على الجسور لخزانة السلطة، والتزام فلسطيني بتطبيق خطة الجنرال الأميركي مايك فنزل لفرض السيطرة الأمنية على شمال الضفة.
وحتى لا ننساق وراء الشائعات المغرضة ونتبنى الرواية الإسرائيلية على حساب الرواية الفلسطينية (التي لم ترو بعدا) نعرض الشواهد التالية التي ترجح فرضية التفاهمات المشؤومة التي تجسدت ترجمتها العبرية في الميدان بمجزرة نابلس:
- صدرت عديد المواقف الترحيبية الفلسطينية ببيان مجلس الأمن مع أن الأنظار كانت متجهة لصدور قرار يحمل إدانة للحملة الإسرائيلية المحمومة لتوسيع الاستيطان ومحاولات فرض وقائع جديدة تجعل من فرص حل الدولتين مجرد وهم من أوهام الماضي.
- الكشف عن قناة سرية للقاءات سياسية أمنية على أعلى المستويات من دون صدور أي توضيح رسمي.
- وصفت بعض الأوساط القيادية الفلسطينية مجزرة نابلس بأنها عملية غدر.
- استمرار الجهود الأميركية والإقليمية لمتابعة التفاهمات إلى خطة أمنية متكاملة.
- صدور جملة من المواقف الناقدة والمحتجة بعضها من الفصائل السياسية، وبعضها من مسؤولين سابقين شغلوا مواقع قيادية مهمة مثل الدكتورة حنان عشراوي والوزير السابق والقيادي الفتحاوي المعروف نبيل عمرو وكلها تخطئ الموقف الرسمي.
مجمل هذه التطورات، وعدم صدور إي توضيح أو تفسير رسمي تؤكد أن القيادة الفلسطينية لا تصارح شعبها بالحقيقة، بل إنها لا تصارح المؤسسات القيادية المكلفة بقيادة هذا الشعب وبالتحديد اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والحكومة، وكل ذلك يساهم في توسيع الفجوة بين القيادة والجمهور الفلسطيني، ويلقي ظلالا كثيفة من الشك على التوجهات المعلنة في البيانات عن قرارات وقف التنسيق الأمني، والتوجه إلى المحافل الدولية بما فيها مجلس الأمن وانضمام دولة فلسطين لمزيد من المنظمات والمعاهدات الدولية.
كان من الأفضل طرح المبررات والأسباب الحقيقية للتراجع عن طرح مشروع القرار على مجلس الأمن، من قبيل الحديث عن الضغوط الهائلة التي تعرضت لها السلطة الفلسطينية، وهذا متوقع ومفهوم. أو بسبب تلويح الإدارة الأميركية باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار يدين إسرائيل، أو التهديد بالعقوبات الشديدة مع أن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة (خصوصا خلال ولاية ترامب) لم تدخر أي نوع من العقوبات دون أن تفرضها علينا، بدءا من وقف التمويل الخارجي وتجفيفه، وقرصنة أموال المقاصة، وسحب امتيازات بعض المسؤولين، وصولا إلى الحملات الدموية التي تشنها قوات الاحتلال وتساهم في إضعاف السلطة وإظهارها بمظهر العاجز عن حماية شعبها.
نحن أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما البقاء أسرى لمعادلة الاستفراد الإسرائيلية التي تريد حسم الصراع وإنهائه بقوة الحديد والنار والدمار والعقوبات، وإما الفكاك من هذا الاستفراد المجحف من خلال التوجه للمؤسسات والمحافل الدولية بما فيها مؤسسات الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، لكن هذا التوجه للمؤسسات الدولية يجب أن يكون مسنودا إلى إجماع وطني يقوم على الشراكة والوحدة الوطنية واعتماد استراتيجية وطنية موحدة تقوم على التكامل بين مختلف أشكال النضال الجماهيري والسياسي والقانوني والدبلوماسي، إلى جانب تفعيل سلاح المقاطعة واستنفار قوى التضامن مع الشعب الفلسطيني على امتداد العالم.
الحكومات الإسرائيلية في العادة توظف المعارضة لتسويق توجهاتها، وإظهار الحكومة وكأنها معتدلة، في حين يبدو أننا نخجل من وجود آراء واجتهادات متباينة، ولا نأخذ رأي المعارضة بعين الاعتبار لدى تزين قراراتنا المصيرية. ولو كان قرار التوجه للأمم المتحدة مسنودا بإرادة وطنية موحدة، فلن تتمكن أي قوة دولية من ابتزازنا والضغط علينا لسحب القرار، ولكان من السهل جدا إيجاد صيغ واعتماد برامج محلية للتعاطي مع أي عقوبات مهما كانت قسوتها وشدتها، أما القرارات الفردية التي لا تدري عنها حتى الهيئات القيادية، فمن السهل التراجع عنها حتى لمجرد مكالمة هاتفية، أو وعد مبهم، والنتيجة أننا نُبخّس خياراتنا التي نلوح بها، ونوحي بأن قراراتنا هي مجرد تصريحات إعلامية.