منذ سنوات والاحتلال يمضي في سياسة تهدف إلى إزالة المسجد الأقصى من الوجود وتأسيس الهيكل المزعوم في مكانه وعلى كامل مساحته، ويعمل في الطريق إلى ذلك على تقويض الأوقاف التابعة للأردن لكونها الإدارة التي تمثل الهوية الإسلامية للمسجد الأقصى.
بالمقابل؛ كان الأردن الرسمي يظن أن بإمكانه التوفيق بين خطين متوازيين: المسؤولية عن المسجد الأقصى المبارك، وتصعيد خط التطبيع والاعتماد المتزايد على الكيان الصهيوني في الغاز والماء والكهرباء والبيئة والاستيراد والتصدير بل وحتى في تشغيل الأردنيين في فنادق أم الرشراش المحتلة؛ وقد كان واضحاً جداً أن الجمع بين المسارين المتناقضين مستحيل.
اليوم مع حكومة الصهيونية الدينية ينفجر هذا التناقض؛ ومنع السفير الأردني من دخول المسجد الأقصى هو أول هذا الانفجار وليس آخره.
من المستحيل منطقياً وعملياً الجمع بين المسؤولية عن مقدسٍ مستهدف بالإزالة وبين التطبيع إلى حد الارتهان مع الكيان السياسي الذي يهدده ويوظف كل إمكاناته لفرض هذا التهديد.
كان وما زال على الأردن الرسمي أن يختار بين مسؤوليته على الأقصى وبين خطه الاستراتيجي الذي لا يتزحزح بربط مصير الأردن بالكيان الصهيوني في جميع المجالات؛ والخيار الذي اختاره حتى الآن هو أن يحاول أن يمنع الأقصى من أن يتحول إلى عنصر تفجير لعلاقته المتزايدة مع الصهاينة وهذا ما ندفع ثمنه جميعاً في الأقصى اليوم؛ فليست المعضلة في طرد السفير الأردني من الأقصى فقد طُرد مئات المرابطين قبله، وأُبعد رئيس مجلس الأوقاف الهيئة المسؤولة مباشرة عن المسجد الأقصى قبله، كما أُبعد نائب مدير المسجد الأقصى وخطيب الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا قبله وهم أقرب منه صِلةً بالأقصى لكن السفير بقي في مكانه ونظيره الصهيوني كذلك بقي في مكانه؛ لقد كانت العلاقات المتينة بالصهاينة عملياً أغلى وأهم بالممارسة من الحضور الإسلامي في الأقصى، وهذه النتيجة الكارثية ليست إلا حصاداً مراً للنهج الذي سبقها والذي ما يزال مستمراً.
على مدى أكثر من عقدٍ من الزمن مضى الأردن الرسمي في سياسة الانحناء لكل تغول صهيوني في الأقصى حتى اغتُصبت منه صلاحيات ترميم أسوار المسجد في شهر ١-٢٠١٩ وصلاحية إعمار بعض معالمه؛ وحتى بات لا يقوى على تعيين أي حارس جديد في الأقصى دون موافقة صهيونية؛ بينما كان في الوقت عينه يفخم تسمية دوره في الأقصى ليطلق عليه اسم "الوصاية" بعد الاتفاقية مع رئيس السلطة الفلسطينية في 2013… عملياً كان الدور يتراجع بينما الاسم يكبر ويُفخّم وهو تناقض كانت الجماهير تراه وتدركه وتفقد ثقتها بالتدريج بسببه حتى بات هذا التناقض محل تندر في وسائل التواصل الاجتماعي.
في المحصلة نحن اليوم في الوقت بدل الضائع للاستدراك؛ فإما أن يعدِل الأردن الرسمي عن محاولة جمع المتناقضات ويمضي إلى سياسة تستفيد من الإرادة الجماهيرية وتستقوي بها، ويوقف منحنى التطبيع والارتهان الصاعد، أو أن الغطاء الرسمي العربي سيكشف عن الأقصى تماماً.
بكل الأحوال الرهان الوحيد بات على الإرادة الشعبية وعلى الرباط والمقاومة؛ لكن انكشاف الغطاء الرسمي وانحلال الإدارة المسؤولة عن الأقصى -إن حصل لا سمح الله- سيضعنا جميعاً أمام تحديات جسيمة، وهذا ما يبدو أن حكومة الصهيونية الدينية ماضية إليه.