أقرّ جيش الاحتلال، أنّه قتل الطفلة الشهيدة جنى زكارنة (16 عاماً) وهي على سطح منزلها، أثناء اقتحامه لجنين (الأحد 11 كانون الأول/ ديسمبر)، لكنّه قال إن قتلها كان عن طريق الخطأ، من أحد قناصته المحترفين "الممتازين"، لاحتمال أنّها كانت على سطح منزل قريب من مسلّحين يطلقون النار على قواته!
يمكننا إعادة صياغة هذا الإقرار الإسرائيلي على النحو التالي:
أولاً- جيش الاحتلال غير واثق من كون الشهيدة جنى زكارنة كانت بالفعل في مكان قريب من المقاومين؛ بحيث يلتبس الأمر على أحد "قناصته المحترفين الممتازين"، فقد جعل ذلك مجرّد احتمال!
مّا كانت قيادة جيش الاحتلال، لا تعرف لماذا يقتل قنّاص "محترف ممتاز" طفلة فلسطينية، فذلك يعني أنّ الأمر ليس مهمّاً بالنسبة لهذا الجيش
ثانياً- ولمّا كان غير واثق من قربها من المقاومين، فإنّه فيما هو معلن لا يعرف بالضبط لماذا قتلها "قناص محترف ممتاز".
ثالثاً- ولمّا كانت قيادة جيش الاحتلال، لا تعرف لماذا يقتل قنّاص "محترف ممتاز" طفلة فلسطينية، فذلك يعني أنّ الأمر ليس مهمّاً بالنسبة لهذا الجيش.
هذا الأمر معروف بداهة لأيّ فلسطيني، لامتلاك الفلسطيني، مهما كان موقعه من الصراع، أو موقفه النظري أو العملي من المواجهة، وعياً بالعدوّ، ونزوعه الجارف لمحو الفلسطيني، وهو معروف بداهة لأيّ متابع جيد، يمتلك حدّاً أدنى من المتابعة والنزاهة معاً، فقد ظلّ جنود هذا الجيش يقتلون الفلسطينيين، بحماية كاملة من جيشهم ودولتهم!
لا ينبغي أن ننسى والحالة هذه، الموقف المعلن لدولة الاحتلال، حول مقتل الصحفية مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، على لسان رئيس وزرائها الآيل إلى الانصراف، لابيد، في تعليقه على تصريح للخارجية الأمريكية، دعت فيه الإسرائيليين إلى إعادة النظر في قواعد الاشتباك بما يحمي المدنيين والصحفيين. قال لابيد إنه لن يسمح بمحاكمة جندي في الجيش دافع عن حياته بإطلاق النار.
ولك أن تتخيل، كيف يمكن أن يكون ذلك الجندي قد دافع عن حياته، وهو يقتل صحفية، بزي الصحفيين وشارتهم وعدّتهم، بين عدد من الصحفيين يرتدون العلامات المميزة نفسها، بينهم نساء (الصحفية شذى حنايشة كانت برفقتها)، وفي النهار الذي يسفر عن الأشياء وبحيث لا يكون ثمة احتمال لخطأ "قناص محترف ممتاز" في تشخيص الهدف.
السرّ في كلمة "حياة" التي استخدمها لابيد، فبالرغم من أن قاتل شيرين أبو عاقلة لم يكن يدافع عن حياته، لكن لكلمة "الحياة" قدرة مفتاحية على فهم الإسرائيلي، فحياة الفلسطيني عنده ليست ذات قيمة على أية حال، وبكلمة أخرى أكثر دقة، مشكلة الإسرائيلي أصلاً مع حياة الفلسطيني!
رابعاً- هذا "القناص المحترف الممتاز"، بالرغم من احترافيته، ومستوياته التدريبية "الممتازة"، وامتلاكه أدوات نظر وتشخيص عالية الدقة، وتعزيزه بأجهزة استخباراتية يقال إنّها الأحسن في العالم، وطائرات من دون طيار، يفترض أنّه بذلك كلّه قادر على تحديد موقع إطلاق النيران، ولكنه مع ذلك قرّر قتل هذه الطفلة، التي بالتأكيد لم تكن تحمل سلاحاً على سطح بيتها، فضلاً عن كونه لم يصدر إطلاق نار من موقعها، لنكون أمام جملة احتمالات، كلّها تنتهي إلى أن مشكلة الإسرائيلي مع حياة الفلسطيني، فإمّا أنّه كان يتسلى بقتلها، أو كان يستسهل قتلها ارتباكاً، أو للتعليمات الممنوحة لجنود الجيش بالقتل السريع من رئاسة أركانه حتى لقاذفي الحجارة بعد انسحابهم من المكان.
السرّ في كلمة "حياة" التي استخدمها لابيد، فبالرغم من أن قاتل شيرين أبو عاقلة لم يكن يدافع عن حياته، لكن لكلمة "الحياة" قدرة مفتاحية على فهم الإسرائيلي، فحياة الفلسطيني عنده ليست ذات قيمة على أية حال، وبكلمة أخرى أكثر دقة، مشكلة الإسرائيلي أصلاً مع حياة الفلسطيني!
تأتي حادثة قتل جنى على سطح بيتها، بعد قتل عمار مفلح في طريق حوارة بعدة رصاصات، وهو أعزل، لمجرد أنه حاول مقاومة اعتقال جنديّ مدجج له، وبعد قتل 212 فلسطينيّاً منذ بداية العام وحتى نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر، فجنى زكارنة غير داخلة بعد في هذه الإحصائية، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر وحده، قتل الاحتلال 20 فلسطينيّاً.
من بين شهداء العام حتى التاريخ المذكور استشهد 35 طفلاً بينهم 15 أنثى، لتكون جنى هدفاً طبيعيّاً في سياقات القتل الإسرائيلي، التي حاولتُ معالجتها في عدد من مقالات سابقة، مثل: "لماذا يقتلنا الإسرائيلي؟ سؤال الهدف والواجب"، و"الفلسطيني في فراشه.. ضحيّة الدولة الخطّاءة!"، و"موت سعدية فرج الله لا يثير الجدل"، و"لماذا قتل الاحتلال غفران وراسنة؟"، و"عن أهمية شيرين أبو عاقلة!"، و"استشهاد عمّار مفلح.. ما قالته الحادثة وما غرق فيه الناس".. وسوى ذلك من المقالات والأحاديث.
يأتي مقتل جنى، مع نشر اعترافات وشهادات لجنود صهاينة شاركوا في مجزرة الطنطورة (22-23 أيار/ مايو 1948). أدلى المشاركون بشهاداتهم وهم يضحكون. أحدهم تحدث عن رؤيته اغتصاب أحد الجنود لفتاة عمرها 16 عاماً، وكيف أنهم جمعوا القرويين في أقفاص وقتلوهم، وبعضهم لاحق القرويين وأحرقهم بقاذف اللهب، وآخر قال إنهم لم يعتقلوا أحداً، وقتلوا كلّ من رفع يديه مستسلماً. هو وحده أطلق مباشرة ذخيرة رشاشه كاملة (250 طلقة) على القرويين، يقول إنّه لا يعرف عدد الذين قتلهم!
هذه المقتلة المفتوحة، التي حصلت وما تزال حاصلة، وقعت أثناء حكومة بينيت/ لابيد، كما حصلت طوال عمر "إسرائيل"، لأنّ هذه "إسرائيل"، لا خلاف فيها جوهريّاً على جواز استباحة الفلسطيني، وإطلاق يد جنديّها في دمه. لكن الخلاف فيها، على ما إذا كانت الاستباحة المفرطة في استخفافها تخدمها بوصفها المستوطنة المعسكرة الكبرى أم لا
الخط الواصل بين مجزرة الطنطورة وبين استشهاد جنى هو "إسرائيل"، بكل تحوّلاتها السياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية. هل كان يكفي ما كُتِب وقيل في محاولة الشرح "لماذا يقتلنا الإسرائيلي"؟ لا. لأننا بتنا، كما في هذه السنة، كلنا بلا اسثتناء أهدافاً محتملة، لا إذا خرجنا من بيوتنا واحتمل الظرف مرور دورية للاحتلال فحسب، بل ونحن في بيوتنا أهداف للإسرائيليين. ثمّ هؤلاء، الذين يقتلهم الإسرائيلي، لا ينبغي أن يكونوا أرقاماً تطوى في الإحصائيات كلّ عام. ينبغي على كل قادر منّا أن يُساهم في تثبيت أسمائهم في ذاكرته، وذاكرة الشعب، وذاكرة العالم، وأن يردّ حقّهم، بأدنى الواجب، وهو القتال بأسمائهم.
ثمّ هذه المقتلة المفتوحة، التي حصلت وما تزال حاصلة، وقعت أثناء حكومة بينيت/ لابيد، كما حصلت طوال عمر "إسرائيل"، لأنّ هذه "إسرائيل"، لا خلاف فيها جوهريّاً على جواز استباحة الفلسطيني، وإطلاق يد جنديّها في دمه. لكن الخلاف فيها، على ما إذا كانت الاستباحة المفرطة في استخفافها تخدمها بوصفها المستوطنة المعسكرة الكبرى أم لا! ثمّة قوى نافذة، مع حكومة نتنياهو المرتقبة، لا تقيم كبير وزن لهذا السؤال، وتدفع باعتقاد غيبي نحو ضرورة توسيع الاستباحة، وقد تفكّر بأنّ نفاق العالم وانشغاله يخدمها، فضلاً عمّا سوف تحظى به من دعم اليمين الصاعد في العالم، والاصطفاف المخزي لدول عربيّة مع "إسرائيل" كما هي وبقطع النظر عمّن يحكمها، لأنّ الفلسطيني انتهى بالنسبة لتلك الدول وجوداً وقضيّة!
أمام هذا القادم الذي قد يحمل قتلاً واسعاً وإرادة تهجير للفلسطينيين، تنشر الصحافة الإسرائيلية تبنّي الإمارات لمقترح من السفير الإسرائيلي في أبو ظبي بتنظيم مهرجان ضخم للموسيقى في صحراء أبو ظبي، يستضيف 40 ألف شاب من الدول الموقعة على "الاتفاقيات الإبراهيمية" إضافة إلى مصر والأردن، ليعقد كما هو متوقع في شتاء العام 2023. أمّا السلطة الفلسطينية فإنها تلاحق رايات حركة حماس، وعناصرها، تخوفاً من تمكنهم من إبراز بعض المظاهر في ذكرى انطلاقتها!