لا يوجد خلاف على أن حكومة بنيامين نتنياهو السادسة التي شرع في تشكيلها ستكون أسوأ حكومة في تاريخ إسرائيل، وستكون حكومة تسعى إلى تصعيد العدوان بكل أشكاله ضد الفلسطينيين، وفي المنطقة. كما تهدف إلى الضم والتهويد والتهجير، وتوسيع الاستعمار الاستيطاني، والمساس بمكانة المسجد الأقصى، وتستهدف الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم. والخلاف بين المحللين والخبراء ليس على هذا التقييم، بل إلى أي حد ستكون متطرفة؟ وهل سيسمح لها الفلسطينيون والعرب والعالم، والولايات المتحدة تحديدًا، بتنفيذ برنامجها؟ ليس من أجل سواد عيون الفلسطينيين، بل خشية من عواقب هذا التطرف على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، فالتطرف الفاشي الإسرائيلي سيستدعي ردًا فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا.
من الأخبار الجيدة عدم نجاح المرشحين الجمهوريين، خصوصًا من أنصار دونالد ترامب في تحقيق هدفهم بحدوث "موجة حمراء" والحصول على أغلبية في مجلسي النواب والشيوخ؛ إذ احتفظ الحزب الديمقراطي بالأغلبية في مجلس الشيوخ، بينما تقدم الجمهوريون في مجلس النواب بفارق 8 مقاعد حتى الآن؛ وهذا سيترك يد بايدن حرة إلى حد ما، وهو سيقيد أيدي الحكومة الإسرائيلية الكهانية التي ستكون أياديها مطلقة في حال فوز الحزب الجمهوري، ومدى التطرف الذي ستنفذه حكومة نتنياهو سيؤثر فيه مدى تجاوب أو اعتراض الإدارة الأميركية.
والسؤال هو: إلى أي حد سيترك نتنياهو العنان لوزرائه الفاشيين الحمقى، أم يشد لجامهم من خلال نزع صلاحيات أساسية من الوزارات التي سيستلمونها، وهل سيكون بتسلئيل سموترتيش وزيرًا للحرب وإيتمار بن غفير وزيرًا للأمن الداخلي؟ وفي هذه الحالة ستتبنى سياسات، وتنفذ الحد الأقصى من الإجراءات الاستثنائية في تطرفها، وفي كل الأحوال سيكون الكثير منهم أعضاء في المجلس الوزاري المصغر، فالتطرف السياسي والديني لا يقتصر على حزب الصهيونية الدينية، بل يطال معظم أعضاء ووزراء الائتلاف الذي سيحكم.
سياسات فاشية تطال الكل الفلسطيني
لا تقتصر هذه السياسات والإجراءات على الضفة والقطاع، ولا ضد المقاومين "الإرهابيين" الفلسطينيين فقط، وإنما ستطال جميع الفلسطينيين، بمن فيهم الحاصلون على الجنسية الإسرائيلية؛ إذ يُخطط لترحيل الكثير منهم مع بقية إخوانهم طواعية قبل أن يتم ترحيلهم قسرًا عند توفر فرصة مناسبة لذلك، ومن تبقى يجب أن يكونوا عبيدًا وموالين للدولة اليهودية، بما في ذلك السلطة التي لن تكون الحكومة الجديدة معنية بدعمها وبقائها بنفس درجة الحكومة الحالية التي أضعفتها وهي تتحدث عن دعمها، بل ستمضي في إضعافها، وهناك وزراء فيها سيطالبون بحل الإدارة المدنية التابعة لوزارة الحرب من أجل تسهيل ضم الضفة لإسرائيل، لذا يفضلون انهيار السلطة وتعيين مكاتب ممثلة للاحتلال تمثّل سلطات محلية منفصلة عن بعضها البعض في الخليل ونابلس ورام الله ... إلخ؛ لأن وجود سلطة واحدة يجسد هوية وطنية واحدة، وهذا يبقي موضوع إقامة دولة فلسطينية في الذهن، ويجعل إعادة طرحه ممكنة، وهم يريدون دفنه مرة واحدة وإلى الأبد.
انهيار السلطة والفوضى ... سيناريو وارد
تأسيسًا على ما سبق، فإن سيناريو الفوضى وانهيار السلطة أصبح أكثر احتمالًا بعد أن أصبح الفاشيون وزراء، وهو لا يوفر فرصة مضمونة لتصاعد المقاومة الشاملة ضد الاحتلال، بل إن تحويل التحدي الخطير إلى فرصة مرهون أولًا باستجابة الفلسطينيين لتوفير متطلبات الصمود والمقاومة، واستمرار وتعزيز التواجد الشعبي الفلسطيني على أرض فلسطين، والكف عن التخاذل والاستسلام والتطرف والمغامرة، وهذا لا ينجح إلا إذا تم إدراك حقيقة المخططات الإسرائيلية المرسومة، التي عنوانها المضي بشكل أسرع في تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، وأنها لا يمكن أن تهزم إذا بقي الوضع الفلسطيني على حاله، ويمكن هزيمتها إذا توفر الوعي والخطة والإرادة اللازمة.
لا نبالغ إن قلنا إن من أهم أسباب تصاعد قوة اليمين السياسي والديني المتطرف في إسرائيل ما يأتي:
أولًا: الوضع الفلسطيني في حالة ضعف وانقسام وتوهان؛ حيث لم تعد القضية الفلسطينية وكيفية التعامل معها قضية أساسية على أجندة الإسرائيليين، بل تراجعت أهميتها، ويتم التعامل معها بسقف أمني اقتصادي؛ ما شجّع المتطرفين على المضي في تطرفهم، ومنح مصداقية لنهجهم الذي يعتمد القوة وفرض الحقائق على الأرض، ويرفض التسوية مع الفلسطينيين، حتى لو كانت ضمن اللاءات الإسرائيلية التي كانت محل إجماع إسرائيلي في السابق، وحل محلها إجماعٌ جديدٌ لا تشذ عنه سوى مجموعات وأفراد لا تؤثر في التيار المركزي في إسرائيل.
ثانيًا: هناك موجة من التطبيع العربي الرسمي مع إسرائيل وصلت إلى حد التحالف معها؛ ما حقق مقولة نتنياهو عن أولوية السلام مع العرب من دون حل القضية الفلسطينية أولًا، أو ضمن ما جاء في مبادرة السلام العربية التي تطرح انسحابًا كاملًا مقابل تطبيع كامل؛ حيث استخدم التطبيع بوصفه ورقة ضغط على الفلسطينيين لإجبارهم على قبول "السلام الإسرائيلي" الذي ينفذ من دون مفاوضات، عبر استمرار وتكثيف خلق الحقائق الاحتلالية والعنصرية التي تجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا.
لا يمكن مواجهة هذه المخاطر الوجودية وإسقاط مخطط الضم والتصفية للقضية من خلال الاستمرار في السياسات المعتمدة نفسها قبل تشكيل الحكومة الإسرائيلية، فما ينفع قبلها لا ينفع بعدها، مع أن السياسات الفلسطينية الرسمية المعتمدة لم تحافظ حتى على الأمر الواقع السيئ، ولم تحول دون التدهور المستمر، ولم تمنع تقدم تحقيق المخطط الإسرائيلي الرامي إلى إقامة "إسرائيل الكبرى".
العضوية الكاملة ليست بديلًا
لا يمكن اعتبار المطالبة بالعضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، والملاحقة السياسية والقانونية لإسرائيل في الأمم المتحدة ووكالاتها ومؤسساتها، بما في ذلك محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية، هو البديل الفلسطيني.
فعلى أهمية هذه الأدوات، لكنها مجرد فروع وأدوات للإستراتيجية المطلوبة، فهي لا تملك إمكانية للتطبيق، ولا تستطيع تجاوز الفيتو الأميركي الذي يقف بالمرصاد للاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وليست ولا يجب أن تكون جوهر الإستراتيجية الفلسطينية، التي لا بد أن تقوم على الانطلاق بأن التطرف الفاشي الإسرائيلي يوفر فرصة لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني الجامع، الذي يوحد الأرض والقضية والأرض، وينطلق من الرواية التاريخية، ويأخذ الظروف والخصائص التي تميز تجمعات الشعب المختلفة.
لقد ضاع المشروع الوطني في دهاليز الأوهام عن إمكانية التوصل إلى تسوية عن طريق المفاوضات والتنازلات وإثبات الجدارة، وإستراتيجية المقاومة العسكرية الأحادية التي لا تملك برنامجًا ملموسًا، والتصور الخاطئ بأن النظام السياسي الفلسطيني يمكن أن يكون فاعلًا في توفير الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة، وسيكافئ بدولة على هذا الدور، بل إن هذه الإستراتيجية لم يقتصر فشلها على عدم التوصل إلى اتفاق يتضمن تجسيد الاستقلال والدولة ذات السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة، أو حتى على أجزاء منهما، بل لم تستطع المحافظة على الوضع السيئ جدًا ومنعه من التدهور وتحوله إلى أسوأ باستمرار، فبعد الإجهاز على ما يسمى "حل الدولتين"، يتم التقدم على طريق نفي أي إطار للهوية الفلسطينية، وإن كان من خلال سلطة حكم ذاتي مرتهنة بالكامل للسيادة الإسرائيلية. وهذا كان برنامج ما يسمى "الوسط" و"اليسار" الإسرائيلي، الذي انهار إلى حد كبير، وحتى قسم من اليمين العلماني. أما اليمين المتطرف الديني والقومي الفائز والمرشح لزيادة نفوذه، فهو لا يريد أي تعبير عن أي هوية فلسطينية، بل يريد تطبيقًا أكبر لمقولة الحركة الصهيونية الأساسية إقامة "إسرائيل الكبرى" و"شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" ولشعار "أكبر مساحة من الأرض وأقل عدد من السكان".
التدويل ليس أساس الإستراتيجية الفلسطينية، بل جزءٌ من كل
إن الإستراتيجية الدولية التي هي إستراتيجية القيادة الرسمية، والتي استخدمت بوصفها تكتيكًا للضغط من أجل العودة إلى المفاوضات لتحقيق ما يسمى "حل الدولتين" لا تقود إلى تحقيق الأهداف الفلسطينية، بما في ذلك إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة، والدليل كما قال الرئيس الفلسطيني أكثر من مرة أن أكثر من 900 قرار صادر عن الجمعية العامة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، بما في ذلك الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل العليا بخصوص جدار الفصل العنصري لم تنفذ، ولا أي واحد منها، فهي إنجازات مهمة سياسية وقانونية ومعنوية، ويضاف إليها القرار المهم الذي صدر مؤخرًا بخصوص الحصول على رأي استشاري جديد بخصوص الاحتلال.
أي أن الإستراتيجية الدولية ليست أساس الإستراتيجية الفلسطينية، بل فرع يمكن أن يخدمها، التي في جوهرها تهدف إلى حشد الشعب كله في إطار وطني تمثيلي موحد، واستخدام كافة أشكال المقاومة والنضال بكل أشكاله، لتغيير الحقائق على الأرض؛ من أجل تغيير موازين القوى، بما يسمح بفرض تحقيق الحقوق الفلسطينية، ضمن معادلة تحقيق أقصى ما يمكن في كل مرحلة، على طريق تحقيق الأهداف الكاملة، بالاعتماد أساسًا على الفلسطينيين أولًا والعرب ثانيًا والأحرار في العالم كله ثالثًا، والاستفادة من أن التحولات الجارية والسائرة نحوها إسرائيل تقلق وتخيف أوساطًا كبيرة على امتداد العالم، بما في ذلك أوساط يهودية واسعة داخل إسرائيل وخارجها. فالفاشيون يريدون الانقلاب حتى على الديمقراطية اليهودية وعلى العلمانية والليبرالية، ويقيمون بدلًا منها دولة دينية مرجعيتها الشريعة اليهودية كما يرونها تمامًا مثل داعش وأسوأ؛ لذلك من الأهداف التي تستهدفها الحكومة الإسرائيلية الجديدة القضاء على محكمة العدل العليا الإسرائيلية، عن طريق تقييدها، وجعلها خاضعة للقوانين التي يقرها الكنيست الذي أغلبيته من اليمين ومن المتطرفين.
الوحدة الفلسطينية هي المدخل
حتى يمكن إحباط مخططات الحكومة الجديدة وتغيير موازين القوى، لا بد من إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة عن طريق تفعيل وتطوير المبادرة الجزائرية وسد النواقص فيها، وربطها بالمبادرة المصرية، وبغطاء عربي؛ للتوصل إلى حل مستدام يقوم على مبدأ الرزمة الشاملة، ويتم تطبيق أركانه بالتوازي والتزامن؛ حيث يتم الاتفاق على البرنامج السياسي أولًا، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تحضر لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية وتلتزم بالحقوق الوطنية الفلسطينية، وتتسلح بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تستجيب للحقوق الفلسطينية، وفي الوقت نفسه يتم تشكيل إطارٌ قياديٌ انتقاليٌ يقود منظمة التحرير لمدة أقصاها عام، وتكون مهمته الأساسية تشكيل مجلس وطني جديد وفق النظام الأساسي للمنظمة، بالانتخابات حيثما أمكن، وعبر التوافق والتعيين ضمن معايير موضوعية ووطنية حيثما يتعذر إجراء الانتخابات.
يجب، منذ البداية، أن نضع في الحسبان أن الحكومة الفاشية لن تقبل بإجراء انتخابات فلسطينية حرة ونزيهة وتحترم نتائجها وتقوي وتوحد الفلسطينيين، إلا إذا وجدت نفسها مضطرة، وهذا يجعل مسألة إجراء الانتخابات أداة من أدوات الكفاح ضد الاحتلال، وليست ثمرة لاتفاق مع الاحتلال كما حدث سابقًا؛ إذ كانت وظيفة الانتخابات الأولى في العام 1996 منح الشرعية الشعبية لاتفاق أوسلو وللسلطة التي انبثقت منه، بينما كانت وظيفة الانتخابات في العامين 2005 و2006 ضم الفصائل المعارضة لاتفاق أوسلو والمقاومة للاحتلال، وتجديد شرعية السلطة ما بعد ياسر عرفات.
وجاءت حينها حسابات الحقل بما لا يناسب حسابات البيدر، بنجاح كتلة التغيير والإصلاح المحسوبة على حركة حماس بالأغلبية، وهذا الأمر لن يُسمح له بالتكرار إلا إذا قبل الفلسطينيون بالفتات المعروض عليهم، أو نشأ وضع فلسطيني جديد قادر على فرض إجراء الانتخابات، وهذا بحاجة إلى نضال متراكم يستوعب دروس النضالات السابقة، ويؤدي إلى نهوض شعبي فلسطيني عارم لا يحدث بكبسة زر وبسرعة، بل بحاجة إلى رؤية شاملة وإستراتيجيات جديدة وقيادة واحدة وإرادة مستعدة للمواجهة ودفع الثمن.
الحكومة الفاشية خطرٌ يمكن تحويله إلى فرصة
إن تشكيل حكومة فاشية في إسرائيل خطر داهم ووجودي، ولا يجب تضخيمه ولا التقليل منه، ولكن يمكن تحويله إلى فرصة إذا قام الفلسطينيون أولًا بالمطالبة بعزل ومقاطعة الحكومة الجديدة، والسعي لإدراج حزب "الصهيونية الدينية" على قائمة الإرهاب، ووقف الالتزامات المترتبة على اتفاق أوسلو، وبما يجب عليهم القيام به. وهذا مطروح ويوفر للقيادة الرسمية، وللرئيس محمود عباس تحديدًا، فرصة قد تكون، أو هي على الأرجح، أخيرة، فلم يبق من العمر ما يسمح بفرص جديدة لإنهاء حياته بإنجاز وطني كبير، وهو استعادة الوحدة، ببذل كل الجهود اللازمة ودفع ثمن إنهاء الانقسام، كما قال في خطابه في مهرجان إحياء ذكرى اغتيال الزعيم ياسر عرفات في حديثه عن خطوات جديدة، وبعد لقاء عزام الأحمد وموسى أبو مرزوق في بيروت أول أمس، فهل يفعلها؟ وهل تكون هذه المرة محاولة جادة لإنهاء الانقسام وليست مثل سابقاتها؟
وهذا الأمر حتى يتم بحاجة إلى تعاون من حركة حماس يقوم على الاستعداد للتخلي عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، مقابل شراكتها الكاملة في السلطة التي يجب تغييرها لتلبي الحاجات الفلسطينية، وفي المنظمة التي يجب إعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي.
الجواب: لا، إذا أخذنا الممارسة السياسية حتى الآن، فالرئيس وجماعات مصالح الانقسام هنا وهناك أصبحوا أسيري ما صنعت يديه وأياديهم، لكن ربما يفعلها، وفي كل الأحوال مطلوب ضغط سياسي وشعبي لكي تتحقق الوحدة قبل فوات الأوان، والله أعلم.