ربما كانت الصدف، وربما كان الأمر يتصل بسياسة إسرائيلية تكاد تكون يومية، ولأنها كذلك فإن شيئاً من التبلُّد قد أصاب عقول الكثير من الساسة الغربيين حتى باتوا يرون القبيح جميلاً.
أيام قليلة تفصل وتربط أحداثاً متشابهة في مأساويتها، ففي حين تحدث الرئيس محمود عباس عن الجرائم الإسرائيلية الكثيرة، ما أغضب المستشار الألماني، وقيادات الاحتلال، كان الاحتلال يعترف بأنه المسؤول عن مجزرة جباليا التي أدّت إلى استشهاد خمسة أطفال أربعة منهم من عائلة واحدة.
وخلال المدى الزمني القصير، أيضاً، مرت الذكرى، الثالثة والخمسون لإحراق المسجد الأقصى، في الحادي والعشرين من آب 1969، لكن العقل الاستعماري الغربي، الذي أدمن ازدواجية المعايير يبدي غضبه حين يتعلق الأمر بكلام عن "الهولوكوست" وإسرائيل، ويغمض العيون والآذان حين يتعلق الأمر، بفعل عنصري إرهابي استعماري بشع يتعرض له الشعب الفلسطيني.
العنصرية والإرهاب في قاموس الحركة الصهيونية المدعومة من الغرب الاستعماري ليست حديثة العهد، بل هي سمة متأصّلة رافقت المشروع الصهيوني منذ بداياته الأولى.
إذا كان الغرب لا يصدق ما يقوله الفلسطينيون، فيكفي متابعة الاعترافات التي يدلي بها إسرائيليون بعد رفع الغطاء عن السرية. رفع الغطاء عن السرية سيكشف عشرات المجازر والجرائم التي ارتكبتها الحركة الصهيونية وإسرائيل. لكن ذلك، أيضاً، لا يشكل ضمانة لكي نتوقع من زعماء الغرب الاستعماري أن يغيروا أطباعهم وقيمهم، ولن يثير أيّا منهم للشعور بالخجل أو وخز الضمير، بعد أن اجتاحه الجفاف.
وبفعل جفاف الضمائر، فإن إسرائيل ستواصل ما دأبت عليه دون خوف من العقاب إلّا إذا استفاق العرب والمسلمون وأخذتهم النخوة، لتوصيل بعض الرطوبة إلى الأدمغة المتحجّرة.
القدس التي تحظى بمكانة مركزية في الصراع تعرضت منذ وقت مبكر من احتلالها العام 1967، لمخطط لم يتوقف حتى اللحظة، مخطط مشفوع بقراءات وادعاءات تاريخية ودينية مزورة، جندت لها إسرائيل مليارات الدولارات، لإثباتها، لكنها فشلت حتى الآن في أن تجد دليلاً أو حتى مؤشراً على وجود هيكل مزعوم تحت المسجد الأقصى.
حين احتلت إسرائيل القدس الشرقية، قام بعض الجنود الإسرائيليين برفع العلم الإسرائيلي فوق قبة الصخرة، ما دفع موشيه ديان وقتذاك لأن يطلب منهم إنزاله، لإدراكه مدى خطورة ذلك الفعل الذي قد يشعل حرباً دينية واسعة.
غير أن إسرائيل، بعد عامين من احتلال القدس، عادت وغطّت على الحريق الذي نشب في المصلّى القبلي، على يد مايكل روهان اليهودي الأسترالي، الذي قيل إنه جاء سائحاً، وحتى تنقذه من العقاب، أعادته إلى حيث أتى.
في تلك الواقعة، كانت إسرائيل قد قطعت المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى، ولم يكن الأمر عرضياً، فلقد تباطأت طواقم الإطفاء في الوصول إلى المكان، الذي سبقتها إليه طواقم إطفاء فلسطينية من رام الله والخليل، وقامت بما توجب عليها القيام به.
ربما لأسباب تتصل بحداثة توقيع اتفاقية أوسلو، امتنعت إسرائيل عن تشجيع المتطرفين على اقتحام المسجد الأقصى، وحين جرّب شارون اقتحام المسجد العام 2000، اندلعت انتفاضة عارمة في فلسطين استمرت سنوات.
إثر ذلك وبعد "إعادة انتشار" الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في قطاع غزة العام 2004، بدأت مرحلة السماح للمتطرفين باقتحام المسجد الأقصى، وأداء طقوسهم التلمودية، إلى أن أصبح هذا السلوك سياسة وسلوكاً يومياً وشكلاً من أشكال إشعال الحرائق.
القدس والمسجد الأقصى، تحول إلى معركة يومية، وإذا كان ما يجري في ساحات المسجد الأقصى، هو الذي يتصدر المشهد فإن الحرب على القدس تستهدف طابعها ومكوناتها الاجتماعية والثقافية والدينية والتاريخية.
في القدس وضواحيها تتجلّى سياسة التهويد والتطهير العرقي سواء من خلال هدم البيوت، وامتناع البلدية عن منح السكان الفلسطينيين تراخيص بناء، أو من خلال فرض الضرائب، والضغط على الناس لإرغامهم على مغادرة بيوتهم ومدينتهم.
كان من الواضح أن قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، قد غذّى لدى المستوطنين المتطرفين، دوافع الحقد والكراهية، حتى أخذ بعض زعمائهم يدعون إلى هدم المسجد الأقصى، وكل ذلك بتشجيع وحماية ومشاركة من الجيش والشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية.
ثمة فارق ومفارقة بين الزمن الذي تعرض خلاله المسجد الأقصى للحرق وبين هذا الزمن، ما يفسر إلى حد ما التصعيد النوعي الخطير الذي يستهدف القدس والمسجد الأقصى كسياسة رسمية للحكومات الإسرائيلية التي تتنافس على أيها الأشدّ تطرّفاً.
حين وقع حريق المسجد الأقصى، تداعى العرب إلى عقد قمة في الرباط، وانبثق عن تلك القمة ما يُعرف بمنظمة المؤتمر الإسلامي، ولكن نتساءل اليوم بعد مرور أكثر من خمسة عقود، عن مدى فاعلية القمم العربية، ومؤتمرات التعاون الإسلامي كثير من البيانات، والتصريحات المنددة، ولكن لا أثر لذلك على أرض الصراع، بل إن الكثير من هؤلاء يلهثون خلف تطبيع علاقات أنظمتهم مع إسرائيل.
في الواقع يمكن أن تحصل عمليات تطبيع انطلاقاً من رؤى ذاتية قاصرة، ولكن من المنطقي أن لا يؤدي ذلك، إلى التخلي التام عن دعم القدس وحماية مقدساتها الإسلامية والمسيحية، وإلّا فإن التطبيع أحادي الدوافع والوجهة يتحول إلى خضوع وتبعية.
الشكوى مريرة، وأشدّ مرارة حين تصدر عن المقدسيين، الذين يتصدون ببسالة وقوة للمخططات الإسرائيلية، ويصممون على المواصلون رغم أن جزءاً من هذه الشكوى، تكون من نصيب الفلسطينيين والقصد السياسات الرسمية.
لا عذر للقيادات الفلسطينية، ولا يمكن تحميل التقصير في تقديم الدعم اللازم للقدس والمقدسيين، لموضوع الانقسام، فالكل على القدس مُوحَّد، لكن المسألة تتصل بضعف الإرادة، والتواكل على طريقة "سيري فعين الله ترعاكِ"، أو "للبيت رب يحميه".