شبكة قدس الإخبارية

عملية القدس.. تعرّي "تل أبيب" من وهم الإنجاز

TibRK
حوراء قبيسي

بالتوقيت الدقيق الذي كانت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تُسوّق لإنجازاتها في "ترويض" الحالة الفلسطينية، بدءاً من سياسة "جز العشب" مروراً بعملية "كاسر الأمواج"، وصولاً إلى توظيف الجولة القتالية الأخيرة في غزة، أتت عملية القدس في "المقتل"؛ لا لأنها أعادت سيناريو رعب العمليات الفردية فحسب، بل لأنها -حصراً- لم تخضع لميزان الخسائر والمكاسب المادية، بل تفردت بحيثياتها في خلق مثلث نار (التوقيت- المكان - المنفذ) أعاد تموضع أركان الصراع، وتعرية دعاية "النصر".

"لا أمان لكم في أورشليم"

أما عن مكان العملية؛ فيقع في خارطة العقيدة اليهودية مقام القلب من الجسد، حيث "الهيكل" المزعوم، إذ لا يمكن الوصول إلى حائط البراق إلا عبر الطريق الذي اختاره المنفذ موقعاً لعملية إطلاق النار، ما يعكس وجود تخطيط مسبقاً للفئة المستهدفة، أي مكان انتظار المستوطنين للحافلات من أجل الدخول إلى "حائط البراق"، بالقرب من باب المغاربة الذي يعدّ عاصمة الحيّ اليهودي في البلدة القديمة بالقدس. وعليه، إن أي تهديد أمني في ما يؤمن المستوطنون أنه "حق" دينيّ في البقعة الأقدس هو تهديد وجودي عقائدي، سيُقَوض حتماً الثقة بالمنظومة الأمنية الإسرائيلية وفعاليتها.

ولأن رتق الفتق الأمني في هذا الموقع بالتحديد، لن يمر قبل إحداث هزة متعددة المسارات، حوّل الاحتلال هذه البقعة إلى ثكنة عسكرية ومربع أمني محصن، من الإجراءات الأمنية المشددة إلى كثافة دوريات الاحتلال، وتعقيدات الحواجز على المداخل، بإخضاع قاطني الأحياء المجاورة لا سيما سكان حي سلوان للتفتيش والتدقيق المتكرر.

وفي ذروة التأهب الأمني وخلال خروج المستوطنين من حائط البراق تمكن منفذ العملية، أمير الصيداوي (25 سنة) -أحد سكان حي سلوان- من استغلال ثغرة عدم تواجد كاميرات مراقبة في النطاق الجغرافي الذي اختاره قرب حائط البراق؛ ليكون ميدانه العملي، الأمر الذي عرقل ملاحقة خيوط العملية والكشف المبكر عن هوية وتحركات المنفذ، بخلاف الهجمات الفردية السابقة حسبما أفادت "القناة 12" بأن منفذ عملية القدس اختار منطقة لا توجد فيها كاميرات مراقبة، ولا تملك الشرطة أي توثيق للعملية.

الصفعات الأمنية التي ابتلعها الاحتلال هنا على تعددها، لن تحجب حقيقة أن المنفذ تجاوز الحواجز الأمنية وعبر بمسدسه (البلجيكي) ورصاصاته العشر ذي القدرة العالية على الفتك والاختراق، كما لا يمكن إغفال جزئية تعدد الاستهداف الميداني، وتنقله بين ثلاثة مواقع ابتدأها المنفذ بحافلة للمستوطنين ثم مركبة قريبة واختتم العملية بإطلاق النار على مستوطنين في شارع "معاليه هشالوم" كما أكدت "القناة 12".

لعل هذا ما دفع محلل شؤون القدس في صحيفة "يسرائيل هيوم"، نداف شرغاي، للقول بأن عملية القدس الأخيرة، ليست مجرد "عملية أخرى" مثل كل العمليات، مع جرحى وعائلات حزينة وملاحقة واعتقال، وأشار إلى أن العملية بالقرب من "حائط البراق" هي عملية استراتيجية، تهدد ليس فقط أمن وسلامة 10 ملايين مستوطن يأتون سنوياً إلى حائط البراق، إنما جوهر الوجود اليهودي في المدينة القديمة.

 العودة إلى "المربع الأول"

ثم جاء توقيت العملية ليعيد "تل أبيب" إلى المربع الأول، فبينما كانت قيادات الاحتلال تتبادل نخب "نجاحاتها" وتتهيأ للموسم الانتخابي الساخن، باعتبار أن اغتيال إبراهيم النابلسي ونشوة  الانتصار الوهمي على غزة قد حقق معادلة الاستفراد بالساحات، واستأصل البؤر التي يخرج منها الذئاب المنفردة، تماماا بالتوقيت الذي بدى لحكومة لابيد أنها أتمت ترتيب أرضية الردع و"تحقيق جميع أهداف عملية "الفجر الصادق"، وإستعادة الردع وإزالة التهديدات".. كانت العملية.

بشكل ما حررت عملية القدس في توقيتها "الصادم" المشهد العام من مخطط التعمية، من جهة كسرت معادلة الاستفراد بالجبهات بهجوم ذي طابع انتقامي، وأكدت أن مبدأ عزل الساحات لا يمكن تحقيقه مهما اشتبكت  السياسات العسكرية والأمنية وحتى الاقتصادية في معركة الوعي ضد الفلسطينيين.

وما لا يقل أهمية، هو سقوط هيبة الردع التي ظهرت بشراسة في خطابات لابيد وغانتس بأن "لا أمان لأحد يقاوم إسرائيل"،  لتُقلب المعادلة في معقل الحصانة الأمنية، ويجد المستوطنون أنفسهم أمام نظرية "أمان" مضادة، وانجرار نحو سيناريو الرعب الاخطر من العملية المقبلة.

وهكذا اختار المنفذ الوقت الذي تكون فيه الإجراءات الأمنية بأضعف حالاتها ضمن الفترة الأكثر هدوءا ونفذ العملية في تمام الساعة 1:30 فجراً، مما زاد الإرباك الأمني تعقيداً.

"صفر" إنجاز

إلا أن أركان العملية النوعية لا تستكمل تشكلها بمعزل عن المنفذ نفسه والمسار الذي اتخذه في تنفيذ العملية. على الرغم من العناصر المشتركة بين عملية القدس والعمليات الفردية السابقة لجهة التحرك المنفرد والسجل الأمني "النظيف" ولجهة التكتيك والتخطيط الميداني؛ إضافة إلى المهارة العالية في التحرك والتصويب ضمن المربعات الأخطر، بما في ذلك استعادت هذه العملية أيضاً لمعادلة  "تطابق الرصاصات مع عدد الإصابات" 10 رصاصات مقابل 8 إصابات خلال 10 إلى 15 ثانية فقط حسب الناطق باسم شرطة الاحتلال في القدس.

لكن على خلاف العمليات السابقة، سلبت عملية الصيداوي إنجاز القبض عليه، وحرمت الاحتلال فرصة استثمار الجهد العملياتي والظهور بدور "المنقذ"، وبمساعدة الساعات الست، التي كانت لتطول أكثر، لولا قرار المنفذ بتسليم نفسه، قرأه الإعلام العبري بانتقاص للمؤسسة الأمني، فعلقت "القناة 14" على العملية بالقول: "لمدة 6 ساعات يتجول المنفذ في القدس بكل حرية ومسدسه معه والقوات الأمنية تبحث عنه، وفي النهاية ذهب وسلم نفسه عند الساعة الثامنة صباحا".

في المواطن الثلاثة لهذه العملية؛ الانسحاب الآمن، التنقل والتجول بسلاح العملية، وأخيراً التوجه بسيارة أجرة إلى مركز الشرطة وتسليم نفسه، شكلت معاً ضربة مؤلمة لعملية المطاردة التي شملت 25 ألف جندي وما رافقها من مروحيات، بالتالي سجلت العلمية نقطة على الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.

 "الفشل العملياتي"

من هنا يصبح مشهد التخبط والفشل العملياتي أكثر وضوحاً، بتوصيف احتوائي "للصدمة" جاء على لسان وزير حرب الاحتلال بيني غانتس الذي أشار للهجوم  بـ "الصعب".

ظهر ذلك جلياً في تناقض روايات الإعلام العبري وتعددها حتى بعد تسليم المنفذ نفسه، إذ أفادت إذاعة جيش الاحتلال أنه ليس مؤكداً أن الشاب الذي سلم نفسه لقوات الاحتلال هو المنفذ، فضياع المعطيات الذي أجبر لاحقاً "الشاباك" على إرغام المنفذ بإعادة تمثيل العملية، لم يتوقف على عدد المنفذين وما إذا كانت العملية مركبة أو منفردة؟ بل عن ميدان العملية وكيفية التنفيذ؟ راجلاً أم من مركبة؟ حتى سلاح العملية الذي قيل بأنه "كارلو" في البداية؛ تبين أنه مسدس فردي، وقد تعمد المنفذ تركه في سيارة الأجرة حين سلّم نفسه لشرطة الاحتلال:"ادفعوا أجرة التاكسي والسلاح بالسيارة".

لذا أتت حملة الاعتقالات عشوائية في حي سلوان، جلّهم من عائلتي سرحان، والشيوخي، وعلى الرغم من محاصرة المنطقة وتطويقها أمنياً، لم تتمكن قوات الاحتلال من العثور عليه في الحي الذي لجأ إليه بالبداية.

"صفر" رصاصة

أما مراكمة الإنجاز الحقيقي هنا فيُستدل على نفسه بـ"حادث" طولكرم الذي جاء على مسافة يومين فقط من عملية القدس، والذي وصفه المراسل العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت، يوآف زيتون، بـ"الصعب" أيضاً، بنتائج فاقت مخرجات عملية القدس نفسها، والذي أدى إلى مقتل الرقيب أول ناتان بيتوسي (20 عاماً) بـ"صفر" رصاصة "معادية"، نتيجة اشتباه زميل القتيل بكونه فدائياً لحظة عودته من الصلاة فأصابه بعيارين ناريين في الصدر من على مسافة 10 إلى 20 متراً.

هذه الرواية الختامية كما جاءت على لسان المتحدث باسم جيش الاحتلال، رون كوخاف: "مقتل جندي إسرائيلي الليلة على الخط العازل قرب طولكرم، بنيران صديقه في الوحدة"، سبقتها رواية مغايرة قبل 20 دقيقة، تعلن فيها وقوع عملية إطلاق نار وانطلاق عمليات البحث لمطاردة المنفذين، ومجدداً إلى دوامة التخبط ذاتها، والوقوع رهينة معادلة رعبٍ يقودها ذئب مقدسيّ، سيفتح شهية التجول في البلاد.