ملوك التناقضات!
كأن شهداء فلسطين من نبت واحد، تجتمع فيهم خلاصة الأرضي والسماوي بخلطة عجيبة يصعب علينا فهمها. خلطة تجمع كل التناقضات بين العشق والكراهية والتواضع والكبرياء والرقة والشدة والشجاعة والخوف والأمل والواقعية. يعشقون الأرض والجنة والأمهات، وآه من عشق الأمهات كم هو جميل ومؤلم خوفا على حزنهن!
يكرهون الظلم والاحتلال ولكنه كره يحرك العطاء والبذل والاستعداد للشهادة. متواضعون أمام تضحيات شعبهم ولكن كبرياءهم يطاول عنان السماء أمام عدوهم ومحتلهم. رقيقون جدا؛ يخافون من الموت لأنهم "يخجلون من دمع أمهاتهم". شديدون في مواجهة عدوهم وجنوده المدججين بالجبن والأسلحة، شجاعتهم نادرة في المواجهة، يواجهون الموت "باسمين" مقبلين لا مدبرين، لكنهم مع ذلك يخافون فراق الأحبة، يناضلون بأمل لا يخبو بالانتصار على الأعداء، ولكنهم واقعيون يدركون أنهم ميتون على أية حال، ويحسبون اللحظات الأخيرة قبل الموت بدقة الرياضي البارع.
كأن شهداء فلسطين من نبت واحد، يجتمع فيهم انتماؤهم للأرض، أمهم فلسطين، وتعلقهم بالقوة المستمدة من السماء والإيمان الكامل بها. هم ملوك التناقضات وسادة الحسابات الخارجة عن الناس العاديين، لأنهم باختصار شهداء، والشهيد لا يمكن أن يكون شخصا عاديا!
ما تبقى منهم
يترك الشهداء وراءهم أشياء بسيطة جدا، وإرثا عظيما جدا. في صور أماكن مواجهاتهم الأخيرة لا نرى سوى أشياء قليلة ومتواضعة، يصعب أن تشكل خبرا قصيرا في وسائل الإعلام. أكياس قليلة من الخبز اليابس، "قلاية" عتيقة طالما "قلوا" بها المجد مع البندورة الفلسطينية بالزيت الضفّاوي، غبار قليل تعفرت به أقدامهم الطاهرة في لحظات الموت الأخيرة، بعض "المعلبات" الفقيرة لوجبة قلقة في انتظار المواجهة، حيطان صار بياضها سوادا من نيران معركة غير متكافئة، فتحة في جدار تهشم من نيران بنادقهم وبنادق العدو مرت عبرها نظرتهم الأخيرة لسماء فلسطين وأرضها وبيوت نابلس العتيقة قبل أن تمر من خلالها رصاصات أردت أجسامهم للأرض ورفعت أرواحهم وذكرهم للسماء، والكثير الكثير من الجنون الفلسطيني العظيم، وعزة لو وزعت على الكون لكفته وفاض منها على أكوان لم يصل العلم البشري لها بعد!
بليغون بدون بلاغة!
لأمر ما يترك الشهداء وصاياهم مع أنهم لا يحتاجون لذلك، فشهادتهم وحدها وصية بليغة. لا يملكون "ورثة" تستدعي وصية، فأعمارهم لا تزال ربيعا، ولا يحتاجون للمطالبة بإكمال الطريق، فإرثهم أعظم من الكلام، وقصتهم تكفي لإرسال كل معاني الكرامة والفداء التي تعجز لغات العالم عن شرحها، ولكنهم مع ذلك يتركون وصاياهم.
تجمع بين وصايا الشهداء ركاكة اللغة، فبلاغة الناس كلام وبلاغتهم فعل معمّد بدمائهم. بكلمات بسيطة يكثفون كل التناقضات بوصاياهم كما هي حياتهم: شجاعة في مواجهة الموت، وخوف من حزن الأمهات وحب لا نهائي لهن، وثقة بالطريق الذي اختاروه، وقلق على متابعة من بعدهم على نفس الطريق.
لا تجهش أمهات الشهداء ولا تدمع أعينهن أمام الكاميرات، فهذه الدموع أليق بالليل، حيث يغيب الناس والأرض، ويجتمع الحب البكر والفقد الحامض، والذكريات الصغيرة، وقوة لا تنقطع من السماء!
يقول أحدهم إن اللغة كائن غبي يعجز عن التعبير الكامل عن الحالات المركبة من المشاعر، ولم أجد مثل وصايا الشهداء ما يصدّق هذه المقولة، حيث تتراجع اللغة ويتقدم الأثر، فكيف للغة في الدنيا أن تعبر عن فوح الياسمين المختلط برائحة الشهداء في "حوش" أمهاتهم، وكيف للكلمات أن تترجم كل هذا العشق والكبرياء، وكيف للأحرف أن تشرح إرثا تتراجع الشمس خجلا أمام بهائه وطغيانه الجميل؟!
أجمل الأمهات
"لم تجهش.. وكم صعب ألّا تجهش أم شهيد"..
مظفر النواب
تعشق أمهات الشهداء أبناءهن، يبكين دما ولوعة خلف الأبواب المغلقة، يعبئن دموعهن وحزنهن العالي بوسائدهم وملابسهم، ولكنهن يحبسن دموعهن أمام الكاميرات خوفا من لحظة انكسار. كأنهن -بحبس دموعهن وإخفاء حزنهن- يكملن آخر مهمة ثورية للشهيد. يكبتن الحزن أمام الناس لأنه أسمى من أن يظهر للعلن. هذا الحزن يليق بمحراب العشق البعيد عن أعين الناس. ينتظرن بلهفة انفضاض الجمع وغياب الكاميرات اللئيمة لكي يبكين بدون قلق من "زعل" الشهيد. وعندما ينفضّ المعزون لحياتهم العادية، يحتضنّ بقايا ملابس الشهداء بحزن غير عادي، يجهشن بصوت عال، يتلمسن كل زاوية في البيت مر بها جسد الشهيد أو طيفه. هل تتخلى أمهات الشهداء عن بقايا ملابسهم؟ هل ينظفن الأرض من فوضاهم المراهقة في غرفهم البسيطة؟ هل يمسحن الغبار عن طاولاتهم؟ هل يتبرعن بكتبهم الجامعية التي لم تتلف أوراقها بعد لأنهم غادروا على عجل؟
أمام الكاميرات تزغرد أمهات الشهداء. لا يزال هذا الطقس يحيرني جدا! كم تحتاج أم عاشقة من قوة لكي تزغرد عند سماع نبأ استشهاد ابنها؟ تبدأ الزغرودة مترددة خجلا من حبها وحزنها، وتزداد ثباتا عندما تزغرد من حولها نساء الحي. وتنتهي بشهقة تختصر كل الذكريات والأحلام البسيطة. فهذه زغرودة للحياة وليس للموت، زغرودة عند تذكر لحظة الولادة والخلق، وأخرى عند ذكرى حبوته الأولى، وثانية لطيفه وهو يلدغ بــ"ماما" أول مرة، وأخرى عند شهادة التوجيهي، وثالثة كانت تدّخرها ليوم تخرجه من الجامعة، وسحبة نفس عميق لزغرودة طويلة ليوم زفافه، وصمت رهيب عن لحظة الحقيقة بأنها زغرودة للوداع.
لا تجهش أمهات الشهداء ولا تدمع أعينهن أمام الكاميرات، فهذه الدموع أليق بالليل، حيث يغيب الناس والأرض، ويجتمع الحب البكر والفقد الحامض، والذكريات الصغيرة، وقوة لا تنقطع من السماء!