شبكة قدس الإخبارية

لماذا فقدنا الثقة بلجان التحقيق؟

ع9765873.JPG
يحيى اليعقوبي

منذ لحظة محاولة اغتيال الدكتور ناصر الدين الشاعر، نائب رئيس الوزراء الفلسطيني السابق والمحاضر بجامعة النجاح،بعدما أطلق مسلحون النار عليه في بلدة "كفر قليل" جنوب نابلس، أصابته ست رصاصات بقدميه، سارعت قيادات في السلطة الفلسطينية وحركة فتحها على رأسها رئيس السلطة محمود عباس لإدانة الجريمة.

الجميع يدرك خطورة الجريمة وإلى أين يمكن أن تمضي تداعياتها وتقود الحالة الفلسطينية إلى فوضى لا تحمد عواقبها، لكن هذه الإدانات – وإن كانت مهمة –ليست كافية، لأن إصبع الاتهام الذي يوجهه الناشطون والرأي العام الفلسطيني بالضفة يتجه نحو السلطة وفتح ذاتها، فإذا كانت هي المتهم، هل ستكتفي بالشجب والاستنكار؟ والمضي بنفس الطريقة التي تعاملت فيها مع ملف اغتيال الناشط السياسي نزار بنات؟ أم ستتخذ أسلوبًا مختلفًا في التعامل مع قضية اغتيال حساسة بحجم شخصية سياسية وأكاديمية معروفة، يمكن للإجابة القادمة أن تجيب على هذا السؤال.

جريمة محاولة اغتيال الشاعر، تتطلب الإسراع في الكشف عن الجناة ومعاقبتهم، وإن كان الجميع يستبعد هذا الخيار، فحادثة اغتيال الناشط نزار بنات، أفقدت الناس الثقة بتحقيقات ومحاكمات السلطة، لأن المجرمين ما زالوا طلقاء بل أن أحد المتهمين بقتل الناشط بنات احتفل بزفافه مؤخرًا وهو ابن عميد بجهاز الأمن الوقائي بعد مماطلة استمرت لأكثر من عام مارست فيها السلطة كل أنواع الضغط على عائلة بنات للقبول بحل عشائري بعيدًا عن تحقيق العدالة.

كما لم يعد بالإمكان الوثوق باللجان التي  تشكلها السلطة ليس فقط بعد محاولة اغتيال الناشط بنات، بل أيضًا عملية اغتيال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في 11 نوفمبر/ تشرين ثاني 2004 شاهدة على ذلك، إذ  نقترب من حلول ذكرى اغتياله الـ 18، ولم يتم الكشف عن المسؤول عن دس السم إليه.

في تقرير أعده كاتب المقال، لصحيفة فلسطين أحصينا 50 ضحية لفظوا أنفاسهم الأخيرة تحت التعذيب والرصاص في عهد السلطة، فالقتل والتعذيب أسلوب تستخدمه السلطة في إغلاق الحساب مع المعارضين، لكن في حادثة اغتيال الشاعر واضح أنه جرى استخدام مسلحين مدنيين في تنفيذ المهمة والأرجح قد لا يكونوا منتسبين للأجهزة الأمنية.

بدأت تلك الجرائم منذ لحظة قدوم السلطة للأراضي الفلسطينية المحتلة، فقتلت السلطة 22 شخصا إثر التعذيب داخل سجون السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة في الفترة ما بين (1994 -1999)، كانت أولى حالات القتل التي افتتحت السلطة سجلها الأسود بقتل  فريد جربوع (28 سنة)، حيث توفي في أحد سجون المخابرات، وفي نهاية التسعينات قتل المواطن إبراهيم محمد الشيخ سنيريا، من طولكرم (65 عامًا)، على يد جهاز الأمن الوقائي، وإلى اليوم لم يتم الكشف عن الجناة أو معاقبتهم.

وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 2000، استمرت السلطة في نهجها بقتل المعارضين، ومنذ 22 عامًا، ارتكبت السلطة 28 جريمة قتل معظمها داخل سجونها، كان من أبرزها، بعد أحداث الانقسام حيث اختطفت خمسة من كوادر حماس وعذبتهم حتى الموت، وهم مجد البرغوثي، ومحمد الحاج، وهيثم عمرو، وكمال أبو طعيمة، وفادي حمادنة، وأغلقت ملفاتهم حتى اليوم.

في 2016 قتل أحمد حلاوة "أبو العز" في سجن الجنيد، وهو قيادي بكتائب شهداء الأقصى، ويومها أعلن رئيس الحكومة في حينه رامي الحمد الله عن تشكيل لجنة تحقيق، وكأنَّ اللجان  أصبحت حقا لتسكين غضب الرأي العام، دون أي نتائج تذكر.

لم يتوقف مسلسل الاغتيال فبعد حلاوة عثر على جثة المدرسة نيفين عواودة (36 عامًا) مقتولة أسفل بناية سكنية تقطنها في بيرزيت بمحافظة رام الله عام 2017، وبعدها بعام قتل الشاب أحمد الدلحي، ثم إيمان الرزة، مهندسة كيميائية وجدت مشنوقة في شقتها بمدينة البيرة بمارس 2018، ثم الشاب عودة الجهالين، ومحمود الحملاوي، وأحمد أبو حمادة، وعام 2020 قتل أمين سر حركة "فتح" بمخيم بلاطة عماد دويكات، ثم علاء العموري، والمستشار القانوني للمالية العسكري عكرمة مهنا، وكلهم قتلوا على يد الأجهزة الأمنية، لكن هل سمعنا بأي محاكمة؟ بالطبع لا؛ مما يؤكد أن لجان التحقيق أصبحت لإغلاق الملفات وحقن الرأي العام بإبر ومسكنات من خلال لجان التحقيق.

من يتتبع تاريخ قيادة السلطة سيدرك أن عمليات قمع المعارضة رافقت الثورة الفلسطينية منذ ستينيات القرن الماضي، ورافق قيادة منظمة التحرير وورثت السلطة هذا السلوك من المنظمة وبات أسلوبًا لا تنفك عن استخدامه بين الفينة والأخرى، وواضح أنها تكثف من استخدامه في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق.

 لكن لا أتصور أن الشعب وأمام حالة الوعي الحاصلة ورفضه لسياسة تكميم الأفواه سيبقى صامتا طويلاً، فنرى أصواتًا لم تعد تأبه بالتهديد وتلقيه وراء ظهرها، وتؤكد أن دماءها ستكون وقودًا للوحدة ومحاربة الفساد.

 دفع نزار بنات ثمنًا للتعبير عن رأيه الذي كفله القانون الفلسطيني في وجه الفساد، وها هو الدكتور الشاعر يدفع ثمنًا، دفع المعتقلون السياسيون أثمانا من أعمارهم نتيجة التعبير عن آرائهم.

 يكثر المعارضون وتزاد عزلة السلطة، ويزاد إصرارها على التمسك بنهج التفرد والإقصاء والقتل والتعذيب، ولا أستبعد أن نشهد خلال الشهور القادمة ثورة تقود بالناس لاقتحام مقر المقاطعة برام الله، هذه الخطوة تحتاج من يحركها، وباتت عوامل تحريك الناس إليها كثيرة، وحالة الاحتقان أكبر من أي وقتٍ سابق، ولم تترك السلطة -التي أصبحت مرتعا للفاسدين للناس- إلا خيارًا واحدًا بالصدام معها، وهذا الخيار الذي أراه سيحدث قريبًا، في ظل حالة الفساد المستشري بالتعيين، وانسداد الأفق السياسي، والتنسيق الأمني والفشل السياسي على مدار ربع قرن وتصاعد الاستيطان وتغول الاحتلال، وانهيار القضاء وإغلاق ملفات قتل المعارضين ضد مجهول.