كان من الممكن أن يكون العنوان: نتائج زيارة جو بايدن لفلسطين والسعودية|؛ لأن المطلوب أن يُقرأ الوضعان العربي والفلسطيني على ضوء هذه الزيارة التي أحيطت بكثير من التوقعّات. وقد اعتبر ما قيل من أهداف لها سيتحقق، ومن ثم ستدخل البلاد العربية والقضية الفلسطينية، في عصر أمريكي- صهيوني جديد، وذلك من خلال تشكّل حلف عسكري صهيوني- أمريكي مع عدد من الدول العربية، بداية "دول حلف أبراهام" مضافاً إليها السعودية، وما تيسّر من دول التطبيع، يكون هدفه حصار إيران وحلفائها، وصولاً إلى الحرب التي يأملون منها أن تحسم مصير المنطقة، في مصلحة الكيان الصهيوني.
قبل مناقشة ما حدث في الزيارة، يمكن التأكيد بأن شيئاً مما تقدّم لم يتحقق، بل لم يُشر إلى أنه ذُكر، وانتهى أمره. فعلى الرغم من إعلان القدس المشترك بين بايدن ولابيد، إلاّ أنه خرج كظاهرة صوتية، وجاء أدنى مما هو قائم من تحالف أمريكي- صهيوني، ثابت ودائم. أما إذا كان فيه من جديد، فيرجع إلى مدى تأثيره في الانتخابات الأمريكية النصفية القادمة، في مصلحة الديمقراطيين، أو في انتخابات الكنيست، في مصلحة لابيد وحلفائه. هذا ولا يُتوقع أن يكون له أثر في الحالتين، وسيخرج منهما بايدن على الخصوص بالخسارة، وقد أضاع وقته في هذه الزيارة الفاشلة.
أما لقاء بايدن وعباس، فقد انعكس على الرأي العام الفلسطيني بالنقمة والغضب والشعور بالمهانة، وحتى الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية، فلم يستطع ابتلاع خيبة أمله، وهو يعلق على نتائج الزيارة التي دشنها بايدن بالإعلان أنه صهيوني، كأيّ يهودي صهيوني، وهو "مسيحي". ثم أتبع بايدن هذه البداية- اللطمة للرئيس محمود عباس، بالقول له إن "حلّ الدولتين" بعيد المنال، أي ضاع عمره سدىً، وسياسته كانت كارثية، واهمة، ولم تزل.
على أن اللافت الجديد في الزيارة قد جاء في لقاءات جدة، وما انتهت إليه. فعلى عكس كل التوقعات حول ما ستكون عليه مواقف الدول العربية، من انهيار وضعف وتنازلات أمام ما سيطلبه بايدن، ولا سيما في ما أمل أن يقدّمه للكيان الصهيوني، وإذا بموقف الدول العربية جاء موحداً في ما سيقوله كل رئيس، وإذ به لا علاقة له بما أشيع من سعيٍ لتشكيل حلف ضد إيران، أو إدماج للكيان الصهيوني، أو تشارك عسكري معه.
صحيح أن البيان الختامي حمل تأكيداً على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ولكنه جاء بلغة خطابية ولا علاقة بخطوة عملية واحدة باتجاه حلف، ولا حتى مواقف ضد إيران، أو تراجع عما وصلته علاقات أيّ دولة من تلك الدول بروسيا والصين. وهذا يجب أن يُضاف استعادة لمواقف عربية قديمة اشترطت التطبيع مع الكيان الصهيوني، بعد إقامة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس.
تكمن أهمية هذا الإجماع، أو شبه الإجماع العربي، في قمة جدة، ليس باعتباره موقفاً صحيحاً أو مشرّفاً، لأن مجرد وعد الاعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع معه، كما تنص المبادرة العربية (بيروت 2002)، هو موقف مرفوض ومفرّط بالثوابت الفلسطينية والعربية، ولكنه بقياس المواقف التي عرفتها السنوات الخمس الأخيرة من هرولة تطبيعية وتنازلات، يعتبر موقفاً "عنترياً" بالنسبة إلى مواقف ما قبل قمة جدة.
فعلى سبيل المثال، بالرغم من الضجة التي أثيرت، بسبب سماح السعودية للطيران المدني الصهيوني باستخدام أجوائها، وهذا بلا شك فيه تنازل في مصلحة الكيان الصهيوني، إلاّ أنه قُدّم أيضاً بصورة التفافية عليه. فلم يقدّم باعتباره اتفاقاً سعودياً- صهيونياً لفتح الأجواء بينهما، وإنما قدّم من خلال التزام السعودية باتفاقية شيكاغو لعام 1944 (لفتح الأجواء أمام الملاحة المدنية).
صحيح أنه تنازُل يجب أن يُدان، ولكن يجب التفريق بين أن يأتي من خلال الالتزام باتفاقية شيكاغو، وبين أن يأتي من خلال اتفاق بين الطرفين.
هنا أهمية هذه القراءة (التفريق بين الأمرين) لتعزيز الملحوظة التي رأت مواقف الدول العربية في قمة جدة؛ موحدّة في مواجهة ما كان يمكن أن يطلبه بايدن منها من تنازلات، تتعلق بإدماج الكيان الصهيوني، والتشارك العسكري معه ضد إيران، أو حتى تقليص العلاقات بكل من روسيا والصين.
طبعاً هذا لا يعني أن هذه الدول ستخرج من قمة جدة بمشروع يشكّل محور عربي جديد، فما حدث يجب أن يُحصر بقمة جدة، وبالظروف الآنية التي أحاطت بها، وذلك لتجنب تلبية المطالب الأمريكية- الصهيونية في هذه المرحلة. ولكن إذا أصبح هذا "التوافق العربي" في قمة جدة ظاهرة مكرّرة أو مستمرة، فلكل حادث حديث.
وبالمناسبة، عندما تحوّل قمة جدة المطلب الأمريكي الملح في ما يتعلق بزيادة إنتاج الغاز والنفط، لضبط الأسعار العالمية التي أفلتت من عقالها بسبب الحرب في أوكرانيا، إلى منظمة الأوبك، فمن شأنه زيادة الفشل الأمريكي، لأن ما كانت تريده أمريكا هو استبعاد الأوبك، من أجل المزيد من عزل روسيا، ومن أجل استبعاد إيران كذلك.
ولكي يتضح الفشل الأمريكي أكثر يجب التنويه إلى أن كل ما قيل قبل الزيارة من أهداف لها، ابتداءً من حلف الناتو مروراً بالاتفاقات العسكرية، وصولاً إلى المزيد من إدماج الكيان الصهيوني في البلاد العربية، لم يكن مجرد شائعات أو أوهام حول ما تريده أمريكا والكيان الصهيوني من قمة جدة. ولنتذكر المثل المعروف: "لا دخان بلا نار"، وإنما كان، بشكل أو آخر، على أجندة الزيارة التاريخية، حتى تكون تاريخية، وفاتحة "لشرق أوسط جديد"، الحلم الأمريكي- الصهيوني الدائم، غير القابل للتحقيق.
وبكلمة، زيارة بايدن فشلت، وستزيد أمريكا ضعفاً وارتباكاً. واللهم لا شماتة في من ما زالوا يراهنون عليها.