تعظيم القوة يبقى الغاية المركزية من دخول الأحلاف العسكرية وإن تعددت أحوالها، والحلف في معظم الأحيان ليس شكلاً متكافئاً من العلاقة، فهو يقوم حول قوى مركزية وأخرى طرفية، كحالة حلف شمال الأطلسي أو حلف وارسو، تحصل القوى الطرفية على مظلة حماية فيما تستفيد القوى المركزية عمقاً استراتيجياً يعزز ممارسة نفوذها وقدرتها على الردع، وتقلل من الموارد المطلوبة لفرض سياساتها وتحقيق مصالحها.
تشكيل الحلف بما يتضمنه من تأثير على موازين القوى هو عمل عسكري قد يقلل من احتمالات الحرب، وقد يزيدها كما حصل في الحالة الأوكرانية. فقد تحولت سياسة توسيع الناتو بحد ذاتها إلى عمل عدواني في نظر روسيا، بعد أن أخذ يطوقها بشكل متصاعد من حدودها الغربية الأقرب إلى مراكزها المدنية.
في سياق التحالفات الدولية كان حلف بغداد 1955 أول التحالفات المعلنة في المنطقة، وقد شكلته بريطانيا بدعم من الولايات المتحدة من الدول الحليفة لها: باكستان وإيران وتركيا والعراق، في مواجهة الاتحاد السوفييتي نظرياً، وفي مواجهة محاولات تحرير القرار العربي وضماناً لتبعيته للغرب باسم مواجهة المد الشيوعي عملياً؛ بلغة أخرى كانت الغاية العملية للحلف وأد نشأة إرادة حرة في المنطقة تحت غطاء مكافحة المد الشيوعي، وبالاستفادة من حقائق الحرب الباردة الآخذة بالنشوء والتي تقسم العالم إلى معسكرين لكل واحد منهما مركزه الإمبريالي. ولم يلبث هذا الحلف أن فشل بضم الأردن نتيجة اصطدامه بهذه الإرادة، ثم انتهى عملياً بتغير نظام الحكم في العراق في 1958.
تكرر مشهد التحالف العسكري بشكله المعلن مرتين على الأرض العربية من بعد حلف بغداد، الأول بالتحالف الغربي لضرب العراق بعد احتلاله للكويت في 1990، ثم التحالف الغربي لاحتلال العراق في 2003. وفي الحالتين كان الخليج العربي مركز هذا التحالف، وكانت الحرب المعلنة فيه ضد دولة عربية، وكانت الغاية المعلنة للتحالف الأول تحرير الكويت، بينما كانت الغاية العملية إعلان النظام العالمي الجديد والسيطرة المباشرة على منابع النفط وحسم كفة القوة في المنطقة لصالح الصهاينة. وكانت الغاية المعلنة للتحالف الثاني نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية التي ثبت أنها لم تكن موجودة؛ فيما كان الهدف الحقيقي هو احتلال العراق وخوض "صراع الحضارات" على الشكل الصليبي الحديث، على طريقة بوش والمحافظين الجدد، بتصنيع عدو وهمي يسمح باستدامة الحرب والتعبئة لها، ويحاول حسم المواجهة التاريخية مع الشرق الإسلامي في مشهد هزيمة مطلقة ونهائية جرى توهمها. ولم يكن التحالف الدولي لاحتلال أفغانستان في 2001 بعيداً في خصائصه، سوى أن مركزه كان في باكستان إلى جانب الخليج العربي.
المتأمل للتحالفات السابقة يجد ثلاثة قواسم مشتركة: الأول هو الموقع الطرفي للدول العربية مع كون الغرب والولايات المتحدة، تحديداً في قلب هذا التحالف، الثاني: أن للتحالف هدفا معلنا يحاكي مصلحةً للحلفاء العرب، كوقف المد الشيوعي أو تحرير الكويت أو "حمايتهم" من أسلحة الدمار الشامل، الثالث: أن الهدف الحقيقي للتحالف كان يقصد في الأساس وأد إرادة الأمة وطموحاتها في استعادة حريتها ووحدتها واستقلال قرارها.
باختصار، كانت كل التحالفات العسكرية المعلنة في منطقتنا تمثل إرادة غربية لوأد إرادة التحرر والاستقلال، بضربها مباشرة أو بتعطيلها باصطفاف مفروض من الخارج يعيد تعريف العدو باتجاه المد الشيوعي أو العراق أو أفغانستان أو "الإرهاب".
وإذا ما كانت الحرب في أساسها صراع إرادات يعبر عن نفسه بأدوات القوة، فقد كانت صياغة التحالفات العسكرية إحدى أدوات حرب الإرادة الغربية ضد إرادة التحرر العربية والإسلامية، وهذا ما يفسر عدم نشأة أي حلف عسكري ضد الكيان الصهيوني بذاته، رغم أنه شن في تاريخه ثماني حروب كبرى كانت أربع منها تمتد خارج حدود فلسطين الانتدابية، وشاركت في تلك الحروب ثماني دولٍ عربية؛ ما يجعله موضوعياً الخطر الأول دون منازع.
اليوم يسعى "الناتو العربي" لتكرار التجربة، بهدفٍ معلن هو مواجهة إيران باعتبارها العدو المركزي الجديد، فيما الغاية الحقيقية هي دمج الكيان الصهيوني في المنطقة وإنهاء إرادة المقاومة وحركاتها بالكامل، ومحاولة اختلاق أساس قيمي و"أخلاقي" لضرب هذه المقاومة انطلاقاً من موقعها من هذا الاصطفاف: مع إيران وضدها، وهو هدف سبق للولايات المتحدة أن أعلنته في 2006 وها هو يتجدد الآن.
غير أن هناك اختلافاً جوهرياً هذه المرة عن التجارب الأربع المذكورة أعلاه: أن مركز التحالف هو الكيان الصهيوني. لقد تعمقت الطرفية العربية لتتحول من كونها تجاه قطب عالمي هو الولايات المتحدة؛ إلى أن تصبح تجاه وكيلها الإقليمي المعتمد عليها وجوديا. ما قاد لهذه الحالة هي القراءة التقليدية العقيمة التي تحاول أن تقاوم تراجع القوة والاهتمام الأمريكيين باستعادة الاهتمام من بوابة الابن المدلل: الصهاينة، دونما إجابات واضحة حول جدوى ذلك وإمكانيته، ومدى اتساع هذا الباب لكل المتنافسين العرب عليه.
هذا الاختلاف يطرح سؤالاً جوهرياً حتى من الناحية النفعية البحتة: فهل يملك الكيان الصهيوني فائض قوة يدافع بها عن بقايا النظام الرسمي العربي المتحالفة معه؟ أم هو بحاجة إلى متاريس يضعها في وجه إيران وفي وجه المقاومة أساساً؟ السلوك التاريخي للصهاينة يقول إنهم لا يقاتلون بالنيابة عن أحد، فمحدوديتهم السكانية هي إحدى المحدوديات التاريخية الآخذة بالتعمق، وتجارب تحالفهم مع الكتائب أو مع جيش لحد أو حتى مع القوى الكردية في شمال العراق ومع أجهزة دايتون؛ تؤكد أن ما يحصل هو العكس، فهم يبحثون عمن يقاتل عنهم، وقدرتهم على حشد من يقاتل عنهم من غير اليهود مفتاحية لبقاء جيشهم بذاته؛ من خلال تجنيد الدروز والبدو وفتح باب تجنيد المسيحيين العرب خلال السنوات الماضية، ورغم ذلك عجز هذا الجيش عن حسم آخر أربع حروبٍ كبرى خاضها؛ تشكل نصف تاريخه في الحرب، وآخر عهده بالحسم كان في 1982 وقد مر عليه اليوم أربعين عاماً كاملة.
في هذا الإطار يُطرح سؤال موضوعي بعيداً عن الاصطفافات: هل التحالف مع الكيان الصهيوني تعظيم للقوة أم استهلاك لها؟ وهل احتمالات الحرب تصبح أقل أم أكثر حين تقف متراساً عن مركز يعجز عن حماية نفسه؟ وهل هذا التحالف سيقيد يد إيران أم سيطلقها حين يصبح قصف الأراضي العربية ضرباً لحلف مركزه المحتل الصهيوني؟