إن تصنيف معظم، إن لم نقل جميع، التشكيلات السياسية القائمة في الواقع الفلسطيني الراهن، لطبيعة المرحلة، هو أنها مرحلة تحرر وطني.
يضعنا أمام إشكالية الاختلاف بين منطلقات أدبيات هذه التشكيلات و مخرجات أدائها، فتصنيف كهذا يضع مهمة التحرير، أو من المفترض أن يضع، في أعلى أولويات مهام و أهداف النشاط السياسي الفلسطيني على مختلف ألوان طيفه .
فيما أن الراهن من الأداء على الأرض لا يعطي مطلقًا هذا الانطباع فمهمة التحرير وما تتطلبه من شروط في الإعداد والممارسة الكفاحية غائبة كليًا عن برنامج بعض هذه التشكيلات أو عن أدائها و جزئيًا عن أولويات البعض الآخر، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن إنجاز هكذا مهمة يفترض تحولات على مستوى الإعداد الذهني والعملي في الوعي والممارسة.
برز غيابها ومنذ فجر العمل السياسي الفلسطيني المعاصر وكانت وراثة هذا الغياب أبرز ما تركه لنا هذا التاريخ من ارث.
فعند انطلاق بوادر العمل الثوري الفلسطيني في العقد السابع من القرن الماضي عموماً؛ و بعد هزيمة الأنظمة العربية في حزيران ٦٧ بشكل أكثر وضوحاً و خصوصية، و بروز النزعة إلى فلسطنة مهمة تحرير الأرض العربية المحتلة بشكل شبه حصري، حيث منحت التشكيلات السياسية و شبه العسكرية القائمة آنذاك، شرعية في غياب البعد القومي عن مهمة التحرير كشرط أساسي في إنجازها.
وسار حضور هذا البعد يبرز أكثر فأكثر في شكل أداء هذه التشكيلات اللاحق، وتعزيز و تكريس الظروف والتحولات داخلها لتزيد من تهميش و ضبابية حضور مهمة التحرير في سلم أولوياتها، كحساب ظهور و بروز تجليات أخرى مرتبطة عضوياً بالتحولات التي شهدتها تلك التشكيلات سواءً في مستواها القيادي و سعيه البحث وراء نزعاته المصالحية الذاتية أو على صعيد الأداء على الأرض خارج الأرض المحتلة و هو من عكس لاحقاً داخلها.
فمنذ استلمت هذه التشكيلات دفة القيادة في الجبهة العريضة كأداة تحريرية جامعة برز جلياً ومن خلال سيطرة مفاهيم كالتقاسم والهيمنة والمال الفاسد وشراء الذمم ومغازلة أنظمة و مقارعة أخرى و غياب البعد الديمقراطي الذي غابت معه المسائلة والمحاسبة والشفافية وسيادة منطق الزعيم وأزلامه و محفظته في معظم الصف القيادي فيها و الذي عبر عن تطلعات و مصالح شريحة طبقية لا مصلحة حقيقية لها.
فالإنحياز للجماهير وطموحاتها كل ذلك وأكثر جعل العين العارفة بثورات الشعوب وتاريخها تدرك جيداً بأن لا أمل مطلقاً بأن تبحر هكذا سفينة إلى بر التحرير، أو أن تقترب منه حتى، ولن تعدو كونها جسم جامع لجملة من التشكيلات والأجسام السياسية التي انضوت تحت لواء واحد فخرج على شاكلتها، وكان لا بد والحالة هذه أن يسارع هذا الجسم الجامع و بعيد فترة وجيزة من انطلاقه إلى تبني مشاريع و مبادرات سياسية هزيلة، و مصطلحات تحرير هجينة و مفاهيم عديمة الإكتمال و غير واضحة.
هذا عدا عن ظواهر الخندقة والفندقة والبقرطة والاستعراض الفارغ في ثورة كانت حرب التحرير الشعبية وقتال الغوار هي سبيلها الوحيد لإنجاز مهامها.
وبدت كمؤسسة بعيدة عن سياق النضال المُمَأسس ومنخرطة في سياق النضال الوظيفي البيروقراطي المرهون بساعات الدوام الرسمي، لذا فمن الطبيعي أن تظل تلك السفينة مع كل أشرعة شعاراتها منهكة وتتخبط في بحر النزاعات و الدسائس الداخلية والمؤامرات الخارجية وتحولت، في لا مفر منه، إلى جسم عديم الشكل مسلوب الإرادة ضعيف وعاجز عن المقاومة فلا عجب أن يشله العطب وتملأها الثقوب و الثغرات ويضمحل دورها وتأثيرها أكثر فأكثر إلى أن غرقت تماماً .
وما تبقى منها سوا سراب يتوهمه من ما زالوا يتعلقون بحطامها ويخطفهم دوار البحر واصوات قبطان الزور الذي أخذ قمرتهُ ونجا بجلده في قارب النجاة و لم يزل يذكرهم بواجب العودة الى متن السراب في هذيان انكاره الكارثة ودوره فيها ، فيما ابتلعت امواج البحر احلام وامال وطموحات وآلام ومبادئ وثوابت ودماء وتضحيات الالاف المؤلفة من جموع الكادحين المناضلة التي ظلت وستبقى وفيةً لشعارات العودة والدولة والتحرير إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا .
إنما لا بد من التأكيد أن كل من عرف تفاصيل الكارثة أن كان قد ركب البحر او راقب المأساة من بعيد ، يعي تماما ان مهمة التحرير لم تصعد الى تلك السفينة يوما وإن ادعت كل الوثائق والخطابات والشعارات غير ذلك.
وإن كان ذلك حال السفينة فما بالك بحال قارب النجاة الذي لم يكن سوا مسخا لًفظته احشائها إثر ما شهده متنها وبحرها من خطايا الزنا والسفاح وإن تزين بالأبهة ومراسم التشريح والتكليف ونال ختم الشرعية والصلاحية في ردهات الدعر الفارهة إلا أنه وفي صميمه حمل اضافة الى قمرة الكارثة كل آفات السفينة و سياقها انما باسلوب اكثر انحطاط و سُعار وصار هذا القارب بما حمل من ذواتٍ و أدوات شعار للمرحلة الراهنة فلا عجب ان اللاواحق للسوابق تتنتمي ولا عجب أن تظل مهمة التحرير شعار محشوراً تتقاتل الأجسام و التشكيلات السياسية الباقية على الساحة راهناً على من يحتكر تعليقه على جداره ولا عجب أيضا أن تظل بُناها القيادية حاسمة لقرارها بالاستمرار في ذات الخطاب وذات النهج في الأداء دون أي حس نقدي أو أخلاقي تحاكم من خلاله شكل الخطاب وانعكاسه على الأرض فتدرك الحاجة الى التجديد والتغيير سواء في بُنيتها ذاتها او في أدائها وستظل طالما بقي الحال كما هو في ذات الدائرة من اجترار الذات وستظل في معظمها كما قياديتها وخطابها هرمة شاخت كما شاخ منطقها وما عادت تملك مبرر للبقاء والاستمرار فإن كان الحزب الذي لا يسعى لاعتلاء سدة الحكم لا مبرر لوجوده ، فالاحرى ان تفقد مبرر وجودها الاحزاب التي لا تنهض بمهمة التحرير الوطني في مرحلته وستدرك عاجلا ام اجلا . طوعا او جبر الجماهير انها انهت دورها التاريخي بمعاكستها تيار التاريخ .
فقد انساقت وراء الزيف الرسمي تقتات من فتاته فيما يقتات هو على ما تبقى لها من إرث وشرعية .
أما عن البعد الكفاحي المنظم فقد صار ماضٍ نظل نجتر امجاده حتى فقد أي طعم ومن ما زالوا يقبضون على جمره فهم محصورون سواء في الفعل أو رد الفعل في مساحة جغرافية ضيقة صار أهلها ومصيرها خارج الاهتمام العام وكأنما يقع قطاعهم خارج الإقطاع الرسمي .
فيما تهمل التشكيلات المقاومة هناك تناقضها الرئيس لحساب تناقضات مضحكةٍ مبكيةَ حول تقاسم واقتسام سلطاتٍ لدويلات وهمية بابها ومحاربها تحت الاحتلال ، الامر الذي حول نضالنا الوطني الى نضال هجين و هلامي وصارت القضية الأعدل ملف مهمل على موائد اللئام وصار الكفاح التحرري منبوذاً أو محاصرًا أو وفي أفضل الحالات ، مرهوناً بالماضوية وغياب الحس العلمي وعادت آفات الذهنية القبلية والعشائرية للهيمنة في المجتمع بعد أن شغلت رويدا ًرويداً كل شاغر الذي دأب التراكم السياسي الذي أنجزه شعبنا خلال عقود على تركه فارغاً ودخلت الذهنية العامة في حالة من اليأس والاحباط ، وسيطر منطق التسليم و الخنوع و سلبيات الذاتية والفئوية والتشرذم.
كل ذلك لم يطفئ جذوة إيمان شعبنا بعدالة قضيته وصوابية التضحية في سبيلها فما زالت جماهيرنا تثبت في كل حين قدرتها على ابداع وابتكار وممارسة ما لا حصر له من أشكال الرفض و المقاومة و النضال ، و أن استعدادها للمقاومة والتضحية أعلى من استعداد أجسامها الجمعية التي عجزت اطرها الضيقة عن استيعاب واحتواء طاقة ومبادرة و اسبقية الجماهير و لم تجد سبيلا سوى ركوب الموجة التي غمرتها وعجزت عن احتوائها كما عجزت عن كل ما من شأنه أن يعيد الدماء إلى أوصالها سواء على صعيد فكرها او خطابها او على صعيد بُناها القيادية الصدئة وأشكال ممارستها البالية والمستهلكة .
إن كل ما ذكر وأكثر مما تضيق هذه المساحة عن تفصيله، يضعنا أمام ضرورة البحث عن خيارات تأخذ على عاتقها استبدال الجمود الراهن بحيوية فاعلة ومؤثرة تضع مهمة التحرير كأولوية ناظمة لكل فكرها و ممارستها من خلال:
1- اعادة الاعتبار للبعد الكفاحي والخروج به من حالة الحصار والارتهان الراهنة وتوفير الظروف الملائمة لدعم خياراته وتوسيع دائرة انتشاره الجغرافية والديموغرافية ودعم مقومات صمود الجماهير وتعزيز ارادتها الكفاحية، عبر سياقات التوعية والقيادة والتنظيم، وإخراج استعدادها من حالة العفوية والموسمية وردات الفعل المؤقتة إلى حالة من الديمومة وتصاعد بالكم والنوع.
2- تقديم الوحدة الوطنية على رأس سلم أولويات شعبنا من خلال السعي إلى صياغة تيار وطني جامع لكل الاتجاهات والتوجهات الفكرية والسياسية يعمل على استنهاض الحالة الشعبية وتقديم بدائل عملية على الأرض. على قاعدة أن وحدة المجتمعات المُستَعمَرة يقابلها تفكك المجتمعات المُستعمِرةَ وزيادة بروز وحدة تناقضاتها الداخلية وضعف لحمتها و انسجامها.
3- إلغاء الحدود الاحتلالية عن خارطة الوطن تلك الحدود التي دأب الاحتلال على تثبيتها ذهنيا وعلى الأرض.
وبالتالي التعاطي مع الوجود الفلسطيني على مساحة فلسطين التاريخية على قاعدة وحدة الوطن والشعب والهدف والمصير، والسعي إلى دمج أهلنا في الداخل المحتل في العمل لإنجاز المهام التاريخية لشعبنا ضمن ما تسمح به ظروفهم الموضوعية وطاقتهم الذاتية فمشاركة أهلنا في ٤٨ في الفعل الثوري الفلسطيني هو رصيد ثوري فاعل لا بد من استثماره .
4- توسيع دائرة الاستهداف ضد عدونا أفراد وجماعات مصالح ومؤسسات على قاعدة وراء العدو في كل مكان فعدونا يستهدفنا في كل مكان وزمان و الأجدر بنا أن نسعى لمواجهته في ذات السبيل ودون اعتبار لحدود الزمان و المكان مهما اتسعت وشعبنا في الشتات يملك من الطاقة والقدرة ما يمكننا أن نعيد الحيوية للفعل الثوري الفلسطيني خارج الأرض المحتلة، ولروح التضامن والمساهمة الأمميية.
5- القطع مع الاتجاه الرسمي الذي لم ولن يعبر يوما عن مصالح وتطلعات الجماهير بالحرية والانعتاق ولم ينحز سوا لمصالح شريحة طبقية منتفعة أثرت و تُخِمت عبر التآمر على شعبنا من خلال الاستوكال المالي والأمني والسياسي لصالح الاحتلال وادامة سيطرته على البلاد والعباد فلا وجود لهذه الشريحة بدون الاحتلال ولا دوام واستمرار لهذا الأخير بدونها.
6- تحرير الذات الفلسطينية من قيود أسرها جميعا بدءً بتحرير الأسرى وتغيير معادلة التعاطي مع هذا الملف مرةً والى الأبد بحيث لا نفخر بعديد السنوات التي قضاها مناضلينا في الأسر إنما بعدد من حررناهم منه وهو ما يفرض تتحررنا من مفاهيم التسليم والعجز و البدأ بالعمل الذي من خلاله ومن خلاله فقط سندرك سبل العمل وآلياته وأدواته بانجاز هذه المهمة مروراً بتحرير الذهنية العامة من قيود التحجر الفكري والذهنية الجامدة والراكدة الخائفة من التغيير أو التجديد وصولاً إلى إنتاج ذات جديدة نصل بها إلى تحرير الأرض والإنسان تحريراً ناجزاً.
ختاما نؤكد أن مهمة التحرير كانت وستبقى مهمة شاقة تحتاج الى مزيداً من طول النفس والمثابرة و الاستعداد المفتوح فلا نملك في ظل الشروط الموضوعية القائمة سوا الاستمرار في خدش الاحتلال وجرحه واستنزاف طاقته حتى تجبره آلامه وخسائره المتراكمة على الانسحاب ومع التمسك بالهدف ومع الإخلاص للجماهير والانحياز لمصالحها و ثوابتها كأسلحة استراتيجية في المواجهة فان ظلام النفق لن يطول.
ملاحظة: هذه المقالة بقلم الأسيرين و.ج/ ن.ص